غسان شربل:
يكفي أن يفتح وزراء الخارجية العرب خريطة العالم الذي ينتمون إليه ليتأكدوا أن اجتماعهم الطارئ في القاهرة أمس، كان مبرراً وضرورياً. فالحديث عن «التدخلات الإيرانية» ليس تهمة عابرة تفتقر إلى الأدلة. والإصرار على مناقشتها لا يدخل أبداً في باب التحرش أو التصعيد. إنه محاولة لبلورة إرادة عربية موحدة حيال التعامل مع واقع يومي ضاغط يعيشه العرب في مجموعة دول وخرائط. ولا يقتصر الأمر على الدول التي تتحرك الميليشيات المدعومة إيرانياً على أراضيها، ذلك أن مفاعيل مسلسل التدخلات تمس موازين القوى على امتداد المنطقة.
اللافت في هذه التدخلات هو أن طهران لا تحاول أن تنفيها. الصاروخ الذي استهدف الرياض يحمل توقيعاً صريحاً، ولا يحمل الحوثيون فيه غير صفة المنصة التي استخدمت في إطلاقه. وصور الجنرال قاسم سليماني يتحرك وسط المسلحين وبين دول الهلال لا تترك مجالاً للشك. وحديث جنرالات «الحرس الثوري» عن السيطرة على أربع عواصم عربية ليس مجرد هفوات أو مبالغات. وكلام الرئيس حسن روحاني نفسه عن المعبر الإيراني الإلزامي على مستوى المنطقة يستكمل الصورة.
«التدخلات الإيرانية» ليست حدثاً جديداً. سياسة «تصدير الثورة» هي بالدرجة الأولى إشهار لحق التدخل في شؤون الدول الأخرى. جديد التدخلات هو اتساع حجمها وتزايد خطورتها وعلانيتها، وما تحاول إحداثه من تغييرات عميقة في المسارح التي تستهدفها. تغييرات سياسية. وانقلابات في موازين القوى بين المكونات. وتغييرات ديموغرافية لضمان تكريس الملامح الجديدة.
«التدخلات الإيرانية» ليست جديدة. لكنها اتخذت بعد الدور الإيراني الصريح في اليمن منحى أكثر خطورة. الجديد في المقابل هو شعور الدول المستهدفة بأنها لم تعد قادرة على إرجاء تسمية الأشياء بأسمائها وتحويل هذه التدخلات بنداً ثابتاً في اللقاءات العربية والمحادثات مع القوى الدولية. الجديد أيضاً هو وجود إدارة أميركية لا تنام على حرير الاتفاق النووي الذي كان إنجازه هاجساً لازم باراك أوباما. فالإدارة الحالية أدرجت بند «التدخلات الإيرانية» في صلب علاقتها مع المنطقة ودولها وأزماتها.
وجديد «التدخلات الإيرانية» هو أن طهران لم تتعامل مع الاتفاق النووي كفرصة للعودة إلى احترام القوانين والمواثيق الدولية. يمكن القول إن ما حصل هو العكس تماماً. فبعد توقيع الاتفاق رفعت طهران وتيرة تدخلاتها في المنطقة وكأنها اعتبرت الاتفاق فرصة لا بدّ من اغتنامها وتوظيفها في خدمة مشروع «الانقلاب الكبير». وهكذا بدا المشهد غير مسبوق. إسقاط لحصانة الخرائط. وانتهاك للقوانين الدولية. وتحويل ميليشيات حليفة إلى جيوش صغيرة جوّالة تسقط أنظمة، وتمنع إسقاط أخرى بغض النظر عن مشاعر أهل تلك الخرائط المخترقة أو معظمهم. وزاد الأمر خطورة تشكيل ميليشيات صاروخية تستكمل الانتهاكات التي تمارسها الميليشيات باندفاعاتها البرية.
وجديد «التدخلات الإيرانية» هو أن مناقشتها جاءت بعد انحسار خطر تنظيم داعش الإرهابي. فقد أعاد انحسار هذا الخطر تسليط الضوء على حقيقة مفادها أن زعزعة الاستقرار لم تبدأ مع إطلالة «داعش» ولن تنتهي بانحسارها. وثمة من يعتقد أن سياسة زعزعة الاستقرار الإيرانية ذات العمق المذهبي كانت السبب في تصدع الوحدة الوطنية في أكثر من قطر عربي وأن «داعش» أطل من خلال هذه التصدعات.
ولأن المنطقة هي أيضاً منطقة ثروات وممرات حيوية للاقتصاد العالمي، تصاعد القلق الدولي من البصمات الإيرانية على الصواريخ والميليشيات معاً. فعشية اجتماع القاهرة تحادث دونالد ترمب وإيمانويل ماكرون حول وضع الشرق الأوسط. وقال البيت الأبيض إن الرئيسين «اتفقا على ضرورة العمل مع الحلفاء لمواجهة أنشطة حزب الله وإيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة».
بلغت التدخلات الإيرانية حداً غير مسبوق. هذا الواقع أحرج حتى الدول التي تستعذب الإقامة في المناطق الرمادية، وتفضل علاج الجروح العربية بالعبارات العامة المكررة. صار من الصعب على أي وزير عربي العثور على تبرير للسلوك الإيراني أو على ذرائع لمنحه أسباباً تخفيفية. الصاروخ الإيراني على الرياض ومضمون استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري قدما أدلة جديدة لمن لا يزال يبحث عن أدلة.
يفسر تصاعد التدخلات اللهجة التي استخدمها الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في افتتاح الاجتماع. ويفسر أيضاً اللهجة الحازمة التي استخدمها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. لقد اتُهمت إيران في الاجتماع بانتهاج سياسات طائفية وتأسيس ميليشيات تابعة لها على الأرض العربية والتدخل في الشؤون الداخلية. وهذه الاتهامات كلها ترشح بند التدخلات لانتزاع الموقع الأول في جدول أعمال اللقاءات الإقليمية والدولية. ولا مبالغة في القول إن الموقف من هذه التدخلات سيكون عاملاً مؤثراً في العلاقات العربية – العربية وكذلك في العلاقات العربية – الدولية.
ثلاثة أطراف يجب أن تتوقف عند نتائج الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب. الأول هو إيران التي أدان المجتمعون سلوكها. والسؤال هو هل تريد أن تتعايش مع جيرانها العرب في الإقليم أم أنها تصر على محاولة إخضاعهم؟ إذا تمسكت بالخيار الثاني فهذا يعني أن رياح المواجهة ستشتد، وأن إيران ستواجه حالة من العزلة. الطرف الثاني هو «حزب الله» الذي يتحتم عليه أن يتبصر فيما طرأ على صورته لدى معظم العرب. لم تعد لهذه الصورة علاقة بالمقاومة ضد إسرائيل، بل صار ينظر إليه باعتباره منظمة إرهابية انطلاقاً من دوره في الانقلاب الإيراني. الطرف الثالث الرئيس ميشال عون الذي سيكون الخاسر الأكبر من استقالة سعد الحريري. لا معنى لوجود عون في قصر الرئاسة، وهو قائد سابق للجيش، إن لم يوظف موقعه ورصيده في الدفاع عن الحد الضروري من فكرة الدولة ومقومات وجودها والدفاع عن مصالح اللبنانيين.
ما لم تتخذ إيران قراراً سريعاً بوقف هجومها الشامل في الإقليم، فإن بند «التدخلات الإيرانية» سيكون عنوان المواجهة المقبلة وعنوان الاصطفافات. وسيكون البند نفسه عنوان التحرك في اتجاه مجلس الأمن، وسيترك بصماته على أوضاع الساحات المشتعلة وتلك المرشحة للاشتعال.
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»