لم تمرّ «العراضات» الجرارة للدراجات النارية والمواكب السيارة التي أعقبت سلسلة الهجمات على مراكز تجمّع الانتفاضة الشعبية في نقاط حسّاسة من بيروت والمناطق اللبنانية بقاعاً وجنوباً وفي عمق المتن الشمالي، على القيادات العسكرية مرورالكرام. فقد كانت كلّ التوقعات توحي إمكان إقامة شارع مقابل شارع على شكل المناكفات المحدودة التي كانت قائمة في أكثر من منطقة.
ولكن زخّات الرصاص التي شهدها بعض المناطق، والاستعداد لاستخدام السلاح بعد العصي والهراوات أقلقت القادة ورفعت منسوب القلق الى الذروة، وهو ما دفعهم الى التحرك في أكثر من اتجاه مطلقين سلسلة من التحذيرات. فقد بنوا معادلتهم على قاعدة أنّ ما جرى يشكّل تجاوزاً خطيراً للكثير من الخطوط الحمر التي لا يمكن تجاهلها. فالثمن السياسي المطلوب من خلال التحركات الميدانية في الشوارع والسعي الى تحقيقه بات بعيد المنال بعدما لامست الأحداث مناطق حساسة تؤدي الى تفجير أمني لا تحمد عقباه.
وفي اعتقاد مرجع أمني بارز انّ مثل هذه الظروف والأحداث قد تفرض على الجيش والقوى العسكرية والأمنية إجراءات لا ترغب في اللجوء اليها، فأخطر المواجهات التي يمكن زجّها فيها أن يكون الجيش ومعه كلّ القوى الأخرى في مواجهة داخلية مع شعبه، او في أيّ مهمّة أخرى في ساحة يمكن ان تشهد مواجهة بين شارع متجانس مذهبياً وعقائدياً يمكن ان يحمل سلاحاً في لحظات في مقابل شارع آخر متعدّد الطوائف والمذاهب والميول لا يحمل سكيناً او عصاً للدفاع عن نفسه أو عن خيمته.
وما زاد الطين بلّة، انه بدأت بوادر الحراك الذي انتظم في مواكب جرارة تجول شوارع العاصمة والضاحية الجنوبية وباقي المناطق اللبنانية وصولاً الى بكفيا، في مواجهة آخر التزم ساحات الإعتصام المدنية.
والأخطر انّ بعضها فتح ثغرة أمنية جديدة كالتي شهدتها أحياء التماس القديمة ما بين الشياح وعين الرمانة على خلفية نشر وتبادل افلام قديمة عبر «الواتساب» ومواقع التواصل الاجتماعي تناهض استمرار امتلاك السلاح من فريق من اللبنانيين قبل التثبت من صحتها. فساحات الإعتصام ما زالت حتى الامس القريب تتجاهل هذا الموضوع على خلفية انّه ليس من أولوياتها في هذه المرحلة.
على هذه الخلفيات، ومن دون الدخول في الكثير من التفاصيل، فقد تلقّت المراجع العسكرية والأمنية سلسلة من التحذيرات الداخلية والخارجية التي اعتبرت ما يجري مؤشراً خطيراً يقود في أقرب الآجال الى تغيير في قواعد السلوك في المواجهة التي أرادها فريق من اللبنانيين مع المعتصمين والتي لا يمكن تلافيها بالقوة، بل بالإسراع في الخطوات السياسية التي يمكن ان تؤدي الى انتظام العمل في المؤسسات الدستورية والى الخطوات المطلوبة للإسراع في الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة لنقل الصراع من الشوارع الى المؤسسات.
فتحديد موعد لإطلاق عملية تشكيل الحكومة لا تنعكس على الوضع السياسي والشارع فحسب، إنّما تحيي الأمل بإمكان وضع حدّ للتدهور الاقتصادي الحاصل ووقف النزف المالي والنقدي تمهيداً للجوء الى كلّ ما يؤدّي الى لجم الأزمة وبداية المواجهة المطلوبة سياسياً قبل ان تكون شأناً أمنياً أو اقتصادياً. فالأمن السياسي مطلوب قبل كلّ الأشكال الأخرى. وهو ما دفع بالقادة العسكريين الى رفع سلسلة من الرسائل التحذيرية في أكثر من اتجاه من رأس الهرم في السلطة السياسية الى أدنى المستويات وصولاً الى القيادات الحزبية وقادة الانتفاضة من المجتمع المدني.
وفي هدي هذه القراءة التحذيرية الجامعة التي التقى عليها القادة العسكريون والأمنيون، فقد توزعوا الأدوار ووجّهوا انطلاقاً من ساعات ما قبل ظهر أول من أمس رسائلهم التحذيرية الى كلّ الأطراف الرسميين منهم والحزبيين وممثلي الانتفاضة.
وقياساً بحجم تقاسم المسؤوليات ما بين القوى العسكرية والأمنية وتوزعها جغرافيا، كما تمّ الاتفاق عليه منذ بدء الانتفاضة فقد شارك فيها مباشرة كلّ من قائد الجيش والمديرين العامين للأمن العام وأمن الدولة وقوى الأمن الداخلي سعياً الى تكريس سلسلة من الإجراءات الفورية التي تقول بتكريس منطق وقف كل أشكال قطع الطرق واللجوء الى التحركات في الشوارع على أن تتعهد القوى الأمنية بأمن اعتصامات الساحة وعلى جانبي الطرق. وكلّ ذلك من أجل تسهيل الخطوات التي بدأتها رئاسة الجمهورية من أجل إطلاق الاستشارات النيابية الملزمة في اليومين المقبلين وتأمين وصول النواب الى القصر الجمهوري بأمان.
وبناء على هذه الطلبات توالت بيانات الالتزام فأصدر تيار «المستقبل» بياناً دعا مناصريه الى وقف أيّ حراك في الشارع، وتعهدت الانتفاضة والأحزاب السياسية المنخرطة بجمهورها بوقف كلّ أعمال قطع الطرق وتعهّدت قيادتا «حزب الله» و«أمل» بوقف تحركات عناصرهما ولجمها.
على هذا الأمل التقى القادة العسكريون عصر أمس في وزارة الدفاع لتقويم نتائج الاتصالات السياسية. فرغم بعض الخروق التي شهدتها مناطق الشياح وعين الرمانة وبكفيا فقد عُدّت بالنسبة اليهم خروجاً على التفاهمات التي توصلت اليها قبل الاجتماع على أمل أن تكون آخر التحركات. فما سيجري من بعدها سيكون مشبوهاً في انتظار التثبت من صدق الالتزامات التي تعهّد بها مختلف الأطراف، وأنّ الأيام المقبلة ستكون شاهداً على هذا الالتزام من عدمه.