فالوضع الإسرائيلي لم يعد سهلاً. إنه الشرق الاوسط المتشابك والمعقّد الذي تستحيل فيه مقاربة مشكلاته الملتهبة بعقلية “التاجر” تماماً كما يفعل الرئيس الاميركي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر من خلال خطة “صفقة القرن”.
صحيفة “نيويورك تايمز” كانت أوردت أنّ الخطة التي يروّج لها كوشنر تشمل استثمارَ 65 مليار دولار، بحيث تحصل الضفة الغربية وقطاع غزة على نحو 25 مليار دولار خلال عقدين، فيما يتم استثمار المبلغ المتبقي في بعض الدول المجاورة وفي طليعتها مصر والأردن، وأيضاً لبنان إذا وافق على الخطة.
وهو ما يعني ضمن موافقة لبنان على التوطين تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية والمديونية الهائلة ما يدفع الى الاستنتاج أنّ فساد الطبقة السياسية كان يلائم مخططات العواصم الكبرى. لكن مرة جديدة فإنّ مقاربة قضايا بهذه الأهمية في الشرق الاوسط من الزاوية المالية هي خطأ سياسي. فالسفير الفرنسي المنتهية ولايته في واشنطن جيرارد أرو والذي كان خدم سابقاً في سفارة بلاده في إسرائيل ما يعكس خبرته القوية، كان اعتبر في حديث لمجلة “ذي اتلانتيك” أنّ مصير “صفقة القرن” سيكون الفشل بنسبة 99%. واضاف أرو أنّ كوشنر “لا يفقه أنك إذا خيّرت الفلسطينيين بين الاستسلام او الانتحار يختارون الثاني”.
والواضح انّ الفرنسيين يفهمون روح منطقة الشرق الاوسط اكثر من الأميركيين الذين يتعاملون مع ملفّاتها بمنطق بارد، لكنّ كوشنر ومع بدء جولته على المنطقة من بوابة المغرب أوحى بتفاؤله بإمرار الصفقة مراهِناً على أنّ التقديمات المالية قادرة على تفتيت المشكلات.
لكن ما يحصل في إسرائيل لا بد أن يُقلق واشنطن كثيراً، وهو ما دفع بترامب لحضّ الاسرائيليين على إنجاز تشكيلتهم الحكومية.
في الواقع إنّ الرئيس الأميركي يدرك تمام الإدراك أنّ الذهاب الى انتخاباتٍ إسرائيلية جديدة يعني الذهاب الى المجهول وسقوط مشروعه “صفقة القرن”.
فهو حقّق حتى الآن ذروة مكاسبه مع إظهار الاستطلاعات انتزاعه تأييد 70% من اليهود الاميركيين بعدما كانت هذه النسبة لمصلحة الحزب الديموقراطي تاريخياً. وهو بالتالي سيرمي في البحر كل التقديمات الهائلة التي اعطاها لنتنياهو وسمحت له بالفوز مقابل التزامات ووعود ابرزها إمرار “صفقة القرن”.
وفي إسرائيل بدا نتنياهو فاقداً قوّتَه امام أزمته. فهو من جهة اصبح امام خطر فتح الملاحقة القضائية ضده في ثلاث قضايا فساد، ما يعني نهاية دراماتيكية لحياته السياسية، ومن جهة أُخرى فإنّ الهدايا التي أغدقتها عليه واشنطن وكذلك موسكو غير قابلة للتكرار ما يضعه في موقع صعب.
وفي الواقع فإنه يصعب الاقتناع بأنّ أفيغدور ليبرمان يرفض الخضوع لأيّ تسوية في شأن قانون تجنيد “الحريديين” ما يهدّد بحصول سابقة في تاريخ إسرائيل والذهاب الى واقع جديد.
الأرجح انّ “الدولة العميقة” في إسرائيل تُعلن رفضها “لصفقة القرن” بأسلوب آخر. فمنذ عشرة أيام تعرّض جاريد كوشنر لمواجهة قاسية خلال ندوة نظمها “معهد واشنطن” حول “صفقة القرن”. والمعهد الذي يضمّ مسؤولين عسكريين سابقين شغلوا مراكز رفيعة، شهد تهجّمات على كوشنر بسبب خطته وطاولوه احيانا بعبارات غير مهذّبة.
هذه المجموعة نفسها كانت سمحت باغتيال اسحق رابين الشخصية التاريخية عندما اختار طريق التسويات. وهي نفسها نفّذت مجزرة قانا خلال عدوان “عناقيد الغضب” على لبنان لقطع الطريق امام وصول شيمون بيريز الى رئاسة الحكومة والاستمرار في سياسة التسويات.
هذه المجموعة ترفض أيّ تسوية مع الفلسطينيين حتى ولو كانت هزيلة بحقهم. وعلى سبيل المثال فإنّ رئيس الأركان الإسرائيلي السابق غادي آيزنكوت حذّر المبعوث الأميركي جيسون غرينبلات قبل مدة قصيرة من انّ الوضع في الضفة الغربية قد يشتعل قبل أو خلال أو بعد إعلان خطة السلام.
واضاف، كما نقلت عنه وسائل إعلام اسرائيلية: “في اللحظة التي يخرج فيها المارد من الزجاجة فإنّ إعادة الأوضاع الى ما هي عليه الآن ستستغرق خمس سنوات”.
كذلك هاجم رئيس الموساد السابق تمير باردو سعي نتنياهو الى ضمّ اجزاء من الضفة الغربية لأنها ستقود الى تدهور خطير، والأهم تخوّفه من التهديد الذي سيطاول الغالبية اليهودية في دولة إسرائيل.
في المقابل طالب يوسي بيلين بضرورة إلغاء مؤتمر البحرين، معتبراً انّ هذه القمة قد تسبّب كثيراً من الأضرار بعد الاخطاء الكبيرة التي ارتكبتها ادارة ترامب في ما يتعلق بالنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، على حدّ قوله.
لكن الاهم والاخطر انه في حال أخذت الامور هذا المسار المعقد، فإنه اضافة الى تعثّر مشروع اطلاق “صفقة القرن” فإنّ نتنياهو قد يكون في حاجة الى عمليات عسكرية ضد غزة كونه وزير الدفاع. بالطبع ستقتصر هذه الضربة على سلاح الجوّ ومن دون اللجوء الى سلاح البرّ الذي لن يحقق كثيراً، لا بل على العكس.
والحاجة الى هذه الحملة الجوّية ستكون بهدف خلق واقع فلسطيني جديد وفي الوقت نفسه منح نتنياهو اوراق قوة بعد الخسائر التي طاولته خلال مرحلة تأليف الحكومة. في اختصار، رحلة ترامب وصهره كوشنر تبدو أعقد بكثير ممّا خططنا له. اضف الى ذلك رحلة اكثر تعقيداً مع إيران، وتشابك في المصالح في سوريا.