أوحى يوم المشاورات الطويل في القصر الجمهوري أمس بأن لمساتٍ أخيرة تَخضع لها صياغة مَخرجٍ سياسي يَضمن طيّ رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته، ويتّصل في شكلٍ أساسي بالمسألة الأهمّ المرْتبطة بنأي لبنان بنفسه عن أزمات المنطقة استناداً إلى مقاربةٍ جديدة تنطلق مما ورد في البيان الوزاري للحكومة وخطاب القسَم لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
وبدا المَخرج أقرب ما يكون إلى صياغة جديدة لقضية النأي بالنفس تُرضي الحريري ويَقبل بها «حزب الله»، خصوصاً أن انفجار أزمة الاستقالة ارتبط بالأدوار الأمنية والعسكرية للحزب في الساحات العربية ولا سيما اليمن، وسط تحميل العرب، لا سيما المملكة العربية السعودية، لبنان الرسمي مسؤولية ممارسات «حزب الله».
وعاش لبنان يوم أمس مناخاتٍ أعطتْ إشارات الى أن «جسر» عودة الحريري بالكامل عن استقالته التي كان أعلنها قبل 24 يوماً من الرياض قبل أن «يعلّقها» الأربعاء الماضي في أعقاب عودته الى بيروت حين «تَريّث» في تقديمها، أصبح سالكاً، من دون أن يزول كامل الغموض حيال أرضية هذه الخطوة المرتقبة التي كان ربطها رئيس الحكومة بإجراء مشاوراتٍ سياسية لمعالجة أسباب الاستقالة وإيجاد مَخرج للأزمة على قاعدة «العودة الى اتفاق الطائف، والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة، وصون علاقات لبنان العربية».
وبعدما كانت تقارير جزمتْ بأن الحريري، الذي زار بعد ظهر أمس قصر بعبدا للاطلاع من عون على حصيلة مشاوراته، سيعلن عودته عن الاستقالة تماماً لتستعيد الحكومة جلساتها بدءاً من الأسبوع المقبل، وذلك وفق صيغة يُدرج من ضمنها النأي بالنفس عن الصراعات الخارجية ويصار الى اعتمادها من الحكومة، لم يَحْمل اللقاء الثلاثي الذي عُقد في «القصر» بين عون والحريري ومعهما رئيس البرلمان نبيه بري بتاً نهائياً للمَخرج الذي بدا أنه بات قاب قوسين وأنه يحتاج إلى بعض «الروتشات».
وكان لافتاً إعلان القصر الجمهوري مساء أمس ان المشاورات «كانت ايجابية وتوافق المشارِكون على النقاط الأساسية التي تم البحث فيها، والتي ستُعرض على المؤسسات الدستورية لاستكمال التشاور في شأنها بعد عودة الرئيس عون من ايطاليا (يزورها غداً لمدة 3 أيام)»، وهو ما اعتُبر مؤشراً على اتجاه لعقد جلسة لمجلس الوزراء الأسبوع المقبل لتكريس التفاهم الذي جرى التوصل إليه وإعلان الحريري في مستهلّها العودة عن الاستقالة.
وهذا المناخ الايجابي عكسه قول بري قبل مغادرته القصر الجمهوري «تفاءلوا بالخير تجدوه»، قبل أن يعزز الحريري بنفسه هذا الانطباع بـ «سيلفي» مع ابتسامة عريضة التقطها مع الإعلاميين الذين أجابهم حين سئل: هل الأجواء ايجابية؟ «ألا ترون ابتسامتي؟».
وسريعاً طرح بدء العدّ العكسي لإنهاء الحريري «اعتكافه» سؤالاً كبيراً حول إذا كان «التريث في إنهاء التريث» يرمي إلى ألا يقتصر طيّ الأزمة على بُعدها الداخلي وترْكها تتفاعل في شقّها الخارجي، لا سيما إذا كان النأي بالنفس لن يتضمّن آليات عملية لمعالجة مكامن «الغضبة» العربية على الحزب.
وتبعاً لذلك، يجري رصْد دقيق لمدى ملاءمة المَخرج الذي سيُعتمد لإنهاء صفحة الاستقالة مع موجباتها كما كان الحريري حدّدها، كما لمدى الإحاطة الخارجية، ولا سيما السعودية، بهذا المَخرج ولا سيما في ضوء ما كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أعلنه قبل أيام قليلة من ان «الحريري لن يستمر في توفير غطاء سياسي لحكومة لبنانية تخضع لسيطرة (حزب الله) الذي تسيطر عليه طهران أساساً».
وحسب دوائر سياسية في بيروت، فإنه لا يمكن إنكار أن الأزمة التي دخلها لبنان منذ إعلان الاستقالة جاءت على وهج المواجهة المفتوحة بين الرياض وطهران، لافتة الى ان المملكة العربية السعودية كانت انتقلتْ من مرحلة المهادنة حيال أدوار الحزب في المنطقة، لا سيما في اليمن، إلى مرحلة «طفح الكيل» مع ميْلٍ لوقف التمييز بين لبنان الرسمي و«حزب الله» وهو ما تجلى بوضوح في الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في القاهرة حيث تمت الإشارة الى «حزب الله» بوصفه «منظمة إرهابية» و«شريك في الحكومة اللبنانية»، الأمر الذي شكّل رسالة قوية لبيروت بأن «الآتي أسوأ» ما لم يتم تدارُك أدوار الحزب في الساحات العربية.
ووفق الدوائر نفسها، فإن الرياض أتاحت في الأيام الماضية من ضمن ما يشبه «فترة السماح» للبنان، أن تتولى باريس حركة ديبلوماسية مع طهران وبيروت في سياق السعي إلى المواءمة بين «دفتر شروط» المملكة لحفْظ أمنها الاستراتيجي وبين عنوان استقرار لبنان الذي يشكّل أولوية قصوى لفرنسا والمجتمع الدولي لاعتبارات عدة، أبرزها أن بلاد الأرز تحوّلت في الأعوام الستة الماضية «مستودعاً» لنحو 1.5 مليون نازح سوري لا تريد أوروبا رؤيتهم «على أبوابها» أو… شواطئها.
ومن ضمن هذا السياق جاء ما كشفتْه تقارير صحافية عن تواصُل حصل بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والرئيسين عون والحريري في «الويك أند» بالتزامن مع إرسال موفد فرنسي الى طهران، الأمر الذي عكس «الرعاية» الخارجية اللصيقة للوضع اللبناني في الطريق إلى احتواء أزمة الاستقالة وتفاعلاتها المحلية والاقليمية.
وهذا الواقع، جعل الأسئلة تزدحم حيال موقف السعودية من أيّ إنهاءٍ للأزمة لا يستند إلى معالجات فعلية ويعيد الأمور في لبنان إلى مرحلة ما قبل 4 نوفمبر، لا سيما ان «حزب الله» وحلفاءه كانوا تعمّدوا تصوير ما رافق الاستقالة وأعقبها على انه «انتصار على المملكة» مع إيحاءٍ ممنْهج بدأ يوم الأحد الماضي بأن الأمور «عادت الى طبيعتها» وكأنّ «شيئاً لم يكن»، وتالياً هل الرياض هي في أجواء المَخرج الذي سيُعتمد وهل ستعتبره كافياً لوقف رزمة الإجراءات التي كانت لاحت بعيد الاستقالة كفرض عقوبات اقتصادية والذهاب بملف إيران و«حزب الله» الى مجلس الأمن؟
وكانت المشاورات التي شهدها القصر الجمهوري أمس شملت 10 شخصيات تمثّل الأحزاب المُشارِكة في الحكومة إضافة الى حزب «الكتائب» غير الممثَّل فيها، وطرح خلالها عون أسئلة حول مفهوم النأي بالنفس الذي قدّم كل طرف رؤيته للآلية الضرورية لضمان الالتزام به، إضافة الى مناقشة سبل حماية لبنان من الاعتداءات الاسرائيلية والإرهاب، وسط ملاحظة أن «حزب الله» تجاهل موضوع النأي بالنفس، في مقابل اعتبار رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ان النأي بالنفس شرطه انسحاب «حزب الله» من أزمات المنطقة وبت موضوع سلاحه.
(الراي)