ضمن مسلسل “وثائق أبوت آباد” والتي وصفها البعض بأنها الصندوق الأسود لأسرار تنظيم “القاعدة”، والنسبة في ذلك إلى منزل أسامة بن لادن الذي داهمه الجيش الأميركي 2011 في مدينة أبوت آباد شمال باكستان، نتوقف عند وثيقة تحمل دلالات خاصة.
تتمثل في وعي قادة التنظيم ومخططيه بنوعية الجمهور المستهدف بالتجنيد في شبكة “القاعدة” العالمية، وهم بوضوح ومباشرة “العوام”، أي “العامة” كما عبر عنها أبو يحيى الليبي، والملقب بـ”حسن القائد”.
ويُعد “الليبي” الرجل الثاني في تنظيم “القاعدة” بعد أيمن الظواهري، وقد قتل في يناير 2014 بهجوم شنته طائرة أميركية بدون طيار في منطقة شمال وزيرستان بباكستان.
وتوصف الوثيقة المؤرخة في يوم الاثنين 13 ربيع الآخر 1431 هـ، ووفقاً لأدبيات التنظيمات السرية والأحزاب بـ”النشرة الداخلية”، وذلك بما حملته من تنويه في مطلعها جاء كالتالي: “تنبيه: تنشر بين الإخوة الإعلاميين، ولكن ليست للنشر العام، رسالة خاصة إلى الإخوة في ثغر الإعلام الجهادي”.
تجنيد العوام وتحريضهم
وتبعاً لآلية التجنيد التي حدد بنودها محمد عبد المجيد حسن قائد المعروف بـ “أبي يحيى الليبي” قال: “التركيز في خطاباتكم وإصداراتكم على عوام المسلمين، وعدم الاستغراق في مخاطبات ومناقشات ما يسمى بـ”النخبة”، فليس هناك أنفع للجهاد وأسرع استجابة له، وحب لأهله وتعاطف معهم كعوام المسلمين، وذلك لأن فطرتهم في الأغلب مازالت نقية ومحلها قابل للخير الكبير، وإن تلطخت بالمعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها… إلا أن أفكارهم لم تمسخ ولم تصب بملوثات الانحراف، ولم يلحقها الجهل المركب الذي يجهل فيه المرء ويجهل أنه جاهل، والأطم من ذلك ظنه أن ما عنده من الجهل المظلم علم وفهم يريد تقديمه للناس وتبشيرهم به، فتراه مترفعاً عليهم يلوك لسانه بالخزعبلات – وهو يحسب أنه على شيء – كما هو الحال لدى كثير ممن يسمون بالمفكرين أو النخب”.
وأضاف: “وأنت إذا رأيت ساحات الجهاد وتأملت في حالة المستجيبين لندائه النافرين لمواطنه وجدت أكثرهم من الشباب الذين لم يمسسهم سوء تلك الأفكار (..) وأما من أصابته فتنة الأفكار، وزينها له الشيطان فرأى ما فيه حسناً فقلما ينفع معه مناقشة أو تحريض أو تذكير”، موضحاً غايته أكثر بقوله: “المقصود أن لا نبذل كل طاقاتنا، ولا جلها في حق هذا الصنف من الناس، فإن نفع الجهاد بهم قليل، وإنما علينا أن نحسن مخاطبة عوام أمتنا وشبابها ونتوجه إليه بما يحرك عواطفهم، ويثير كوامنهم، ويهيج حميتهم، ويشعل حماستهم، وشيئا فشيئا سترونهم ملبين للنداء، فالعاطفة والحماسة مدخل كبير من مداخل الخير، ينبغي أن لا تهمل أو تعطل، واستجابة العوام لتأثيرات الأمور العاطفية والحماسية أعظم بكثير من تأثرهم بالحجج العقلية والمناقشات العلمية”.
استثمار جهل “العوام” كما حدث مع قاتل الكاتب المصري “فرج فودة” الذي لم يقرأ كتبه، وكذلك الحال مع من حاول قتل الأديب المصري طه حسين.
وقد ظل ذلك ركيزة رئيسية ومنذ وقت مبكر لدى رعاة ما يسمى بـ”الجهاد العالمي” لتحريض المزيد من الانتحاريين والقتلة، وما جاء في ” النشرة الداخلية” لا يتعدى كونه تأصيلاً فاضحاً لنهج الجماعات الراديكالية المتطرفة.
وبحسب تخريجات “الليبي”: “كما تعرفون فإن أغلب العوام لا يدركون حقيقة النقاشات العلمية ولا التحليلات السياسية، ولا الردود والاعتراضات، وإنما يتحركون بالعاطفة، فرب لقطة مؤثرة مدبلجة بنشيد حماسي، يهيج الكثيرين منهم، ورب مشهد مؤثر لجرحى أو فقراء أو غير ذلك، يحسن إخراجه وتقديمه، يدفع التجار إلى إنفاق نفائس أموالهم في سبيل الله، بينما تصنف الكتب وتطبع في أرقى المطابع، وعلى أجود الأوراق فلا يسمعون بها فضلاً عن التأثر بما فيها”.
اللافت هنا أنه، وفي مقابل لهث منظري الجماعات الراديكالية صوب “العوام”، جاء التراث العربي والإسلامي محذراً من ضررهم باعتبارهم مشكلة، من ذلك كان كتاب أبو حامد الغزالي “الجام العوام عن علم الكلام”.
كذلك الأمر ذاته، كان في الأدب العالمي محترساً من عاطفة العوام كما في كتاب “سيكولوجية الجماهير” لوغستاف لوبون، وما ذهب إليه الطبيب النمساوي سيغموند فرويد في مؤلفه “علم نفس الجماهير”.
لم يكن “الليبي” المنظر القاعدي والمتخصص في الكيمياء بدعاً في هذا، بل مقلداً نجيباً لما انتهجته الجماعات الراديكالية، وتميزت به الحركات المتطرفة، عبر التاريخ في الإسلام وغير الإسلام، بتوظيف مشاعر العامة سواء الدينية أو العنصرية – القومية كما كان هيجان العوام في إيطاليا وألمانيا مع الأفكار النازية والفاشية المتطرفة.
لأصحاب السوابق الجنائية: “أسلم ثم قاتل”
هذا ولم يكتف مخططو القاعدة بالتركيز على العوام، بل ذهبوا كذلك إلى أصحاب السوابق الجنائية أو الجنح الذين قد يسقطون من اعتبار المجتمع بوصف هؤلاء هدفاً سهلاً وثميناً.
يأتي ذلك إدراكاً وعن وعي سابق، بأن صاحب السوابق قد يشعر بتأنيب ضمير، مثل ما قال مخطط “القاعدة”، أو لإعادة الاعتبار، فيأتي تنظيم “القاعدة” ليوفر له هذا المخرج ويضع على عنقه طوقاً لا يمكن الفكاك منه.
وكما ذكر أبو يحيى الليبي: “كم رأينا من الشباب الذين كانوا غارقين في بحور الغفلة، تائهين في أودية الضياع، ما كانوا يدرون ما الإيمان، ولا الصلاة، ويعيشون وسط أمتهم بقلوب ميتة، وأجساد مشلولة بلا هدف ولا همة ولا فكرة، وكأنهم ليسوا منها، فمنهم من كان ملطخاً بدنس الرذيلة، ومنهم من لا يكاد يفيق من فرط إدمانه على المخدرات، ومنهم الذي يقضي الساعات والأيام وهو يطالع مواقع المجون على شبكة الإنترنت، ومنهم الذين لا يرجون لله وقاراً ولا يعرفون لوالدين حقاً، ولا يراعون لجار أو قريب حرمة.. فما زالوا على ذلك حتى قذف الله في قلوبهم نور الإيمان برؤية وجه شهيد مبتسم، أو إصدار جهادي متقن، أو سماع كلمة تحريض عابرة، أو جلوس مع مجاهد مختف ناصح، أو بقراءة موقف بطولة وشجاعة وإقدام، فإذا به يخرج من الظلمات إلى النور، بل من الموت إلى الحياة، ليصير بعد ذلك أسداً من أسود الإسلام وبطلاً من أبطال الأمة”.
اللافت، أن هذا النوع من أصحاب السوابق الجنائية والمضطربين أخلاقياً ومعنوياً، قد شكل رصيداً ثميناً في العمليات الإرهابية للقاعدة بوصفهم المجموعة “الانتحارية” أو “الانغماسية”، حسب تعبيرات القاموس الإرهابي الأصولي.
وأكد على ذلك المنظر القاعدي قائلاً: “فلا يلبث إلا قليلاً، حتى تجده قد دون اسمه في قائمة الاستشهاديين أو الانغماسيين، الذين يلاقون الموت كفاحاً صراحاً، وفي الصف الأول لا يلفتون عنه وجوههم (…) وليس كما يظن البعض من أن الدعوة لابد أن تسلك مسالك، وتمر عبر درجات ومراتب، على المرء أن يقطعها واحدة واحدة، حتى يوصف بعدها بأنه أصبح من المستقيمين أو الملتزمين، بل قد يكون صاحبها ممن عمل قليلاً وأُجِر كثيراً أسلم ثم قاتل”.
وبينما يجسد القاعدي “أبو حمزة المصري”، مصطفى كامل مصطفى 59 عاماً، الذي انتقل من كونه حارساً لملهى ليلي إلى داعية متطرف، أحد الشواهد عما كشفت عنه الوثيقة.
إلا أن هذا الأسلوب في التجنيد الذي أقره تنظيم القاعدة كان قد استخدمه بشكل أكثر حدة تنظيم “داعش” في تجنيد ما أطلق عليه بـ” الذئاب المنفردة”.
فكما كشفت دراسة غربية أجراها المركز الدولي لدراسة التطرف أن غالبية المجندين في صفوف تنظيم “داعش” هم من أصحاب السوابق الجنائية، منوهة إلى اندماج شبكات إجرامية وإرهابية في أنحاء أوروبا لإنتاج “جهادي”.
وأشارت الدراسة إلى أن ثلثي “الإرهابيين” الذين شملتهم الدراسة كانوا مستمرين في التدخين وتناول الكحول إلى جانب تعاطي المخدرات.
ومن بينهم كان إرهابي كوبنهاغن “عمر الحسين” (22 عاما) الذي قتل شخصين بعد إعلان مبايعته لتنظيم “داعش” في 2015، والذي كان معروفاً لدى الأجهزة الأمنية ضمن أحد أفراد عصابة من المراهقين، اعتادوا سرقة المنازل وارتكاب الجرائم الصغيرة وتعاطي المخدرات.وفق ما ذكرت العربية.نت