منذ اللحظة الأولى لولادة «التفاهم» الذي جمع قوّتين اساسيّتين في الساحتين المسيحية والشيعية، بدا أنّ كثراً لم يتمكنوا من «هضمه» نظراً الى التحوّل الذي أحدثه في موازين القوى اللبنانية وفي تضاريس»الجغرافيا السياسية» للواقع الداخلي. ومع أنّ «الحزب» و»التيار» سعيا الى احتواء هواجس القلقين وطمأنتهم الى انّ التحالف ليس موجّهاً ضدهم ولا يرمي الى إنتاج ثنائية مغلقة في مواجهة المكونات الأُخرى، إلّا انّ «الوساوس» ظلّت تلاحق اصحاب المخاوف ممَّن إرتابوا في النيات الكامنة خلف تلاقي «الجنرال» و«السيد».
الإنجاز الفوري والتلقائي الذي حققته دينامية «التفاهم» تمثل في كسر الحواجز الموروثة بين قواعد «التيار» و»الحزب»، وإزالة خطوط التماس النفسية التي كانت لا تزال تمتدّ تحت قشرة الاستقرار الظاهر. في الفصول الأولى من التجربة، اكتشف كل من الجانبين الآخر، على حقيقته وكما هو، بعيداً من الأحكام المسبقة والفرضيّات المُعلّبة، ما أفرز حالة «السلام الداخلي» وخلط أوراق الاصطفاف الطائفي التقليدي.
بهذا المعنى، بدا في ذلك الحين أنّ مفاعيل «التفاهم» الوجدانية والانسانية لا تقلّ أهمية عن مفاعيله السياسية والوطنية، وهو الأمر الذي عكسه في وضوح تفاعل بيئتي التنظيمَين بحرارة وشغف في المرحلة التي تلت توقيع الوثيقة التاريخية في كنيسة مار مخايل.
فيما بعد، ومع تلاحق التحدّيات والاستحقاقات، والاستغراق أكثر في الملفات والقضايا «الإجرائية»، دخل «التحالف» في طور آخر، كما يحصل في العادة عند الانتقال من حالة الخطوبة التي تكون عموماً مخصّصة للتعارف وغنيّة بالأبعاد الرومانسية، الى مؤسسة الزواج التي تطغى عليها المحاكاة للتفاصيل اليومية وحسابات الحقوق والواجبات.
والمقصود هنا، انّ «التحالف» اصبح مع مرور الوقت مزيجاً من الواقعية الضرورية والثوابت الاستراتيجية، بحيث إنّ وعاءَه بات يتّسع لتباينات في وجهات النظر، من دون أن يقود ذلك بالضرورة الى تفسّخه. ربما لم يكن سهلاً على القواعد الشعبية لدى الطرفين التكيّف مع هذه المعادلة المركّبة التي تراعي التمايزات الموضعية والموضوعية، وهو ما يفسّر جنوح بعض المحازبين والمناصرين أحياناً نحو الاجتهاد خارج حدود النص وصولاً الى تبادل الاتهامات، كلما حصل إختلاف في المقاربة التكتيكية بين قيادتي «التيار» و»الحزب».
وقد أتى كلام نصرالله الاخير ليعيدَ مجدداً النضارة الى التحالف مع «التيار الحر»، على قاعدة الثقة المتبادَلة من جهة واحترام خصوصية كل طرف من جهة أخرى، في دلالة الى انّ دور «وثيقة مار مخايل» لم ينتفِ بعد، خلافاً لاستنتاجات البعض ممّن اعتقد انّ «تاريخ صلاحيّتها» انتهى مع انتخاب عون رئيساً للجمهورية، مفترضاً انّ «التفاهم» ارتكز أصلاً على جانبٍ مضمَر يتمثل في منح «التيار» الغطاءَ المسيحي للمقاومة في مقابل دعم «الحزب» لوصول عون الى الرئاسة، وانّ هذه المقايضة الضمنية أدّت غرضَها ولم تعد قادرةً على تشكيل رافعة للعلاقة الثنائية.
يهزأ القياديون في الجانبين من هذا التفسير الملتوي لجوهر «التفاهم»، مؤكدين أنه لم يفقد حيويّته السياسية ووظيفته الاستراتيجية على رغم التفاوت في بعض المقاربات للتفاصيل الداخلية، بل إنّ رئيس «التيار» الوزير جبران باسيل يستهجن مجرد طرح السؤال حول المصير الذي آل اليه التحالف مع «حزب الله» بعد مضي كل هذه السنوات.
ويقول باسيل لـ«الجمهورية» إنّ «التفاهم التاريخي بيننا وبين «حزب الله» لا يزال صلباً، وأيّ إستنتاج آخر هو «تخبيص» لا يمتّ الى الواقع بصلة».
ورداً على سؤال عن تعليقه على تأكيد نصرالله أنّ صداقةً تجمعه به استناداً الى ثقة كرّستها تجربتا حرب تموز ووثائق ويكيليكس، يجيب باسيل قائلاً: «انا أعتزّ بهذه الصداقة وهي غالية عندي كثيراً»..
وما هو خيارك إذا لم تتشكّل الحكومة قريباً؟ يردّ باسيل موضحاً أنه «لا بدّ من قلب الصفحة إذا استمرّ التعثر في الولادة الحكومية»، من دون أن يفصح عن المزيد.
وينبّه باسيل الى أنه «إذا جرى تعطيلُ محاولات الحلّ مجدداً فإنّ البلدَ كله سيكون على حافة الهاوية»، مرجّحاً «أن يتبيّن هذا الاسبوع احتمالُ حدوث تطوّر إيجابي من عدمه».