لؤي حسين:
ما عادت لوحة الصراع في سورية تحتاج منا إلى تقديم أدلة لإثبات أن ما اصطُلح على تسميته «الحل السياسي» انتهى. بل إن مسار جنيف، الحامل هذا الحل، بات مسدوداً في شكل تام. فقد انقضت صلاحية الديناميكية الأساسية المحرّكة له، أي القرار الدولي 2254. فاللوحة الصراعية التي انبنى على أساسها تغيرت كلياً، فلم يعد في مقدور الواقع الحالي تقبّل هذا القرار أو استيعابه، أو حتى مجرد النظر فيه.
في هذا الصدد، لا بد من التذكير بأن مسار جنيف «هذا» لم يتمكن منذ تأسيسه، مطلع 2016، أن يتقدم قيد أنملة، بل بقي قابعاً في مكانه كأنه صنم تطوف حوله الخطابات السياسية طوافاً فارغ المعنى، وذلك على رغم ما أظهره من بشائر في أشهره الأولى، والتي ما لبثت أن تلاشت سريعاً حين أظهر طرفا التفاوض عدم رغبتهما في التوصل إلى أي نقطة اتفاق. واستمر كل منهما يراهن على نصر كامل في جبهات القتال، فذهبا كـ «بالغَين راشدَين» إلى المعركة الفاصلة: معركة حلب.
هذه المعركة التي انتصر فيها «محور النظام»، أي داعمي النظام إقليمياً ودولياً مع أدواتهم المحلية على «محور المعارضة»، أي داعمي المعارضة إقليمياً ودوليا مع أدواتهم المحلية.
قلبت نتيجة هذه المعركة قوام لوحة الصراع رأساً على عقب. وهذا ليس لأن «محور النظام» هو الطرف المنتصر، بل لو كان المنتصر هو «محور المعارضة» لكان الأمر سيّان، بل لربما بدا التغيير أوضح. فقد أطاحت هذه المعركة المعادلة المركزية التي ارتكزت عليها جميع مشاريع التسوية منذ بيان جنيف عام 2012 مروراً بقرار مجلس الأمن 2254. هذه المعادلة التي تفترض وجود تكافؤ ميداني بين محورَي الصراع، حتى لو لم يكن هذا التكافؤ قائماً فعلاً في الميدان، كما كانت الحال حين إعلان «بيان جنيف» الذي صاغته «دوله» وفق الخط البياني للمعارك آنذاك، والذي كان يشير بوضوح إلى تقلص مساحات سيطرة النظام يوماً بعد يوم، وفي شكل سريع، لمصلحة المجموعات المناوئة له. فلم تعتمد تلك الدول حينذاك مساحات السيطرة الحقيقية. طبعاً، من دون أن نتجاهل الغَلبة الديبلوماسية في ذلك الحين للدول التي بدأت، حينذاك، لا تتحرّج من تسليح ودعم المجموعات الجهادية التي تريد إسقاط النظام بالقوة والعنف. أما إبان صدور القرار الدولي 2254، فكان ثمة تعادل ما في الميدان بين المحورين.
لا يضير هذه القراءة أو يُضعفها وجود أشخاص أو أطراف أو حتى دول تعتبر أنه ما زال يمكن التعويل على مسار جنيف و «قراره» الدولي لحل الأزمة السورية، وأن معركة حلب ليست فاصلة، بل مجرد معركة ضمن حرب ما زالت مستمرة. فقد عوّل هؤلاء على بقايا مجاهدين متناثرين هنا وهناك، ما زالوا موجودين لسبب أو لآخر، ولكن ليس إطلاقاً لأن وجودهم قائم بسبب أن لهم وزناً في المعادلة السياسية. بل إن كل مَن يزن بقاءهم العسكري بميزان سياسي سيخرج في النهاية خالي الوفاض، كما هو بعضُ حالهم اليوم مع انهيار كل الوجود العسكري الجهادي في الغوطة بعد أيام «فقط» من الحملة العسكرية التي شنها «محور النظام» بقيادة روسية.
ما كانت «الغوطة» بعد «حلب» إلا «تحصيل حاصل» «لا يعوَّل» عليها. وكذلك حال درعا وأريافها، وأرياف حمص وحماة. فجميعها، ومن دون أدنى استثناء، ليست لها أهمية سياسية. أما إدلب فمعدومة المعنى السياسي لأن الجهاديين الموجودين فيها مصنفون وفق الاستخبارات الدولية إرهابيين تجب تصفيتهم، ولن يجدوا دولة تؤازرهم أو تدعمهم؟
بعد «حلب»، والآن بعد «الغوطة» التي أزالت غبش الصورة عن أعين الذين كانوا ما زالوا ينظرون إلى وجود ندّين في اللوحة السورية، بات الواقع يقوم على معادلة «منتصر ومهزوم» بدل معادلة طرفين متعادلين. وما عاد هذا الواقع يمكنه القبول بأي طرح يقوم على مبدأ التكافؤ في الحل، كـ «بيان جنيف» و «القرار 2254» وما يتضمنانه من اصطلاحات مثل «العملية الانتقالية». وهذا يعني بجلاء القول انتهاء مقولة «الحل السياسي» كمصطلح تُقصد به تسوية تشاركية متكافئة بين المعارضة والنظام.
روسيا، الآن، هي المنتصر الأكبر من مجمل هذا الصراع الذي مر بسورية طيلة سبع سنوات. فبعد أن انتصرت على النظام واستحوذت على قراره وأخضعته لإرادتها، بات في مقدورها أن تواجه غريمها الغربي بانتصارها الميداني العميم. ويمكننا في ضوء ذلك أن نجد «بعض» التفسير للهجمة الديبلوماسية الأوسع التي تقوم بها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة والمتمثلة بطرد العشرات من الديبلوماسيين الروس كرد على الضربة القاضية التي وجهتها إليهم روسيا في معركة الغوطة.
وباعتبار أن المنتصر لا يتقاسم غنائم الحرب مع المهزوم، وبما أن التسوية السياسية من بين هذه الغنائم، فإن «الحل السياسي» بات ملكاً للطرف الروسي يتقاسم بعضه مع حليفه الإيراني ومع شريكه التركي، اللذين يتوافق معهما على التنافر مع الغرب الأوروبي والولايات المتحدة من دون توافق تام على الموقف من النظام. أي بوضوح التعبير: لن يقوم «الحل» المرتقَب على قاعدة التكافؤ والتعادل والقرار الدولي 2254 وبيان جنيف، بل سيكون عبارة عن تسوية المنتصِر يرسمها وفق مصالحه التي قد تتضمن بعض المقايضات مع خصومه الغربيين.
لن تستطيع الجهود الغربية تغيير هذه المعطيات الجديدة حتى لو «رَعَنَتْ» الإدارة الأميركية وقصفت مواقع تابعة لـ «محور النظام» بذريعة استخدام النظام السلاح الكيماوي، كما حصل منذ ما يقرب السنة حين قصفت البحرية الأميركية مطار الشعيرات السوري ردّاً على اتهام النظام بهجوم كيماوي على بلدة خان شيخون. فمثل هذه الضربات لا جدوى سياسية منه لأن النظام ما عاد قائماً كنظام متماسك، بل بات مفتَّتاً إلى ميليشيات نظامية وغير نظامية. بالتالي، قصف واحدة من هذه «الميليشيات» لا يؤثر إطلاقاً في الأجزاء الأخرى المسماة في مجموعها «النظام السوري».
لا بد من الإشارة إلى أنه ما كان يمكن هذه المعارك العسكرية إطاحة العملية السياسية برمتها لولا احتكام طرفي الصراع في شكل كلي منذ البداية إلى التصارع العنفي، متوافقَين على استخدام جميع الوسائل العنفية حتى تحقيق أهدافهما. لهذا، وجدنا أحدهما يرفع شعار «يحرق البلد ولا يتخلى عن الأسد»، والآخر يعتمد شعار «يحرق البلد ولا يقبل ببقاء الأسد». فكان صراعهما هو العنف في مواجهة العنف وليس الحق في مواجهة العنف أو القوة. لذلك، كانا متفقَين ومتعاونَين على تدمير الحقل السياسي عبر إقصاء شخصياته وتخوين أدواته، مقابل تعظيم الشخصيات العسكرية أو المسلحة والتغني بالأدوات العنفية.
فور انتهاء معركة حلب، أسست الدولتان المنتصرتان في الحرب، روسيا وإيران، مع شريكتهما تركيا، «مسار آستانة» الذي حقق نجاحاً ميدانياً وأسّس تكتلاً دولياً جديداً باسم «الدول الضامنة». شكّل هذا التكتل مرجعية ميدانية خارج إطار الأمم المتحدة، بل أمام «عيني» مسار جنيف الأممي الذي فشل في وقف نار بندقية واحدة على الأراضي السورية. لكن «الدول الضامنة» تمكّنت، عبر اشتغال «آستاني» لأكثر من عام، من احتكار غالبية مقومات العنف على الأراضي السورية والسيطرة على غالبية السلاح العامل على الجبهات، ما عدا السلاح الكردي الذي يأتمر بأمر مموله الأميركي. وهذا مكّنها من إحكام السيطرة على اللاعبين كافة في الميدان السوري، وفي مقدمهم النظام الذي أصبح قِياده بيد الطرفين الروسي والإيراني، وما عاد في مقدوره التحرك قيد أنملة من دون أوامر منهما، بل للدقة من دون أوامر تفصيلية من الطرف الروسي الذي وضع يده في شكل تام على القصر الرئاسي السوري وعلى قيادة الأركان السورية التي أصبحت بالمطلق تحت إمرة قاعدة حميميم.
هذا كله، بمجمله وتفاصيله، دفع بروسيا إلى أن تحاول جعل تكتل «الدول الضامنة» مرجعية سياسية جديدة لسورية بديلاً لمرجعية الأمم المتحدة. وهذا ببساطة لأنها مسيطرة في الأولى، لكنها تتشارك مع خصومها في الثانية.
ضمن هذا السياق يمكن أن ننظر إلى مؤتمر سوتشي الذي عقدته روسيا بالتعاون مع شريكتيها تركيا وإيران. ومع أن هذا المؤتمر فشل في تحقيق هذا الهدف، وقد صرّحتُ بذلك خلال مشاركتي به، إلا أنه من المؤكد أن تبقى موسكو تحاول جاهدة تحقيق هذا الهدف، بخاصة الآن بعد معركة الغوطة. وسيكون من المرتقب أن تنجم عن اجتماع قمة «الدول الضامنة» في أنقرة هذا الأسبوع نتائج تدفع في هذا الاتجاه في شكل جلي. أي يمكن بعد هذه القمة أن نلمس لمس اليد وجود مرجعية دولية جديدة اسمها «الدول الضامنة» قادرة على تحريك الركود الآسن الذي تغرق فيه البلاد.
لكن، بغض النظر عن موقفنا السياسي أو الأخلاقي من هذا التكتل الدولي، إلا أنه هو واقعنا الجديد الذي يتوجب علينا العمل للتأثير فيه، لكي تكون آثاره لفائدة سورية والسوريين ومصلحتهم، بدل الاكتفاء بلوم هذه الدولة أو تلك، وبدل التعويل على الولايات المتحدة التي قرر رئيسها تخييب أمل المراهنين عليه ووعد بإخراج قواته من الأراضي السورية «في وقت قريب جداً»، وقرر تجميد الأموال التي كانت بلاده خصصتها لإعادة إعمار مناطق شرق الفرات.
* رئيس «تيّار بناء الدولة»