هذا ينطبق طبعاً على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الإتفاق النووي الإيراني (رسمياً «خطة العمل المشتركة»)، الذي يُعتبر أحد أكبر إنجازات سياسة أوباما الخارجية. وعد ترامب خلال حملته الإنتخابية بالإنسحاب من الإتفاق، وبالتالي إعادة تفعيل العقوبات ذات الصلة على النظام في إيران.
ولكن بعد مخاض طويل في إدارة البيت الأبيض، وإقالة العديد من المساعدين المقرَّبين، خصوصاً ستيف بانون الداعي للإنسحاب من كلّ الإتفاقات المتعدّدة الأطراف، دخلت إلى الإدارة الأميركية في مراكز قيادية مجموعةٌ أكثر رصانة وتماسكاً نجحت، إلى حدٍّ ما، في لجم أفكار الرئيس المتطرّفة والغوغائية، أقله في الوقت الحاضر.
هذه المجموعة مؤلّفة، بشكل رئيسي، من رئيس موظفي البيت الأبيض، الجنرال جون كلي، ووزير الدفاع، الجنرال جايمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي، الجنرال مكماستر، ووزير الخارجية ركس تيليرسون. يقول السيناتور بوب كوركر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، إنه لولا وجود هؤلاء لكان الرئيس «وضعنا على طريق الحرب العالمية الثالثة».
ما هي السياسة التي يريد أعضاء هذه المجموعة، والخط السياسي الذي تمثّله، داخل الكونغرس وخارجه، تحقيقها في الشرق الأوسط، خصوصاً بالنسبة للإتفاق النووي وإيران؟
يرى هؤلاء أنه يجب المحافظة على الإتفاق، وقد توصّلوا بالفعل إلى إقناع الرئيس بتحويله إلى الكونغرس الذي عليه إيجاد الحلّ خلال ستين يوماً من استلامه المهمة. ومن المنتظر أن يقترح الكونغرس بعضَ التعديلات التي قد تتركّز على تقوية شقّ المراقبة في آلية التنفيذ ومسائل ثانوية أخرى تحفظ لترامب ماءَ الوجه.
ولكنّ الإعتراضَ الأقوى على الإتفاق من قبل هذا الخط السياسي تكمن ليس في ما يحتويه الإتفاق بل ما وضع خارجه في المفاوضات ذات الصلة، بالتحديد البرنامج الصاروخي الإيراني من جهة، ومساندة إيران لمليشيات في المنطقة، للحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق و«حزب الله» في سوريا ولبنان من جهة أخرى.
كانت فكرة أوباما في حينه أنّ الإتفاق سيعطي المعتدلين في إيران الغلبة على المتشدّدين ما سيغيّر في النهاية سياسة إيران في المنطقة، ومساندتها للميليشيات المذكورة، ويعيدها بالتالي إلى المجتمع الدولي بشروط المجتمع الدولي. وكان أوباما يخفّف من أهمية التحالف مع العرب، خصوصاً دول الخليج، لصالح إيران بعد انتصار المعتدلين.
يقول أصحاب الخط السياسي المذكور إنّ هذه النظرية فشلت ولن تنجح في المستقبل المنظور. البديل هو في الضغط على إيران للتفاوض، ليس فقط لتصحيح الإتفاق، بل أيضاً، وبالأخص، للتفاوض بشأن برنامجها الصاروخي، وبشأن دورها في أزمات اليمن، والعراق، وسوريا ولبنان.
هذه الضغوطات قد تأتي من جهات عدة منها الدول الموقّعة على الإتفاق، بما فيها روسيا، وكذلك من خلال زيادة العقوبات الأميركية الموجودة المتعلّقة بالبرنامج الصاروخي الإيراني وبرعاية الإرهاب.
أما سيف ديموقليس المسلط من قبل الولايات المتحدة على موقّعي الإتفاق، ولا سيما البلدان الأوروبية، فهو طبعاً الإنسحاب من الإتفاق النووي وإعادة العقوبات ذات الصلة ما سيُنهي الإتفاق ويؤثر سلباً في هذه الدول التي أصبحت لها مصالح إقتصادية حيويّة مع إيران.
هذا السيف المسلط يشهره ترامب في كل مناسبة مهدِّداً بالإنسحاب من الإتفاق إذا لم يتوصل الكونغرس إلى حلّ يرضيه خلال ستين يوماً. وأخيراً هدّد المرشد الأعلى السيد علي خامنئي بتفجير الإتفاق للضغط في اتجاه معاكس على موقّعي الإتفاق، مستعمِلاً السلاح نفسه.
هذا التأزّم سيسبّب حراكاً ديبلوماسياً مكثّفاً في الأسابيع والأشهر المقبلة من قبل الدول الأوروبية وروسيا، في ظل تهديدات متبادلة بين أميركا وإيران من دون أن تصل الأمور إلى حرب ساخنة لا مصلحة لأيٍّ من الطرفين فيها.
ما سيطاول لبنان بشكل مباشر هو العقوبات التي ستفرضها الإدارة الأميركية على «حزب الله» باعتباره ركناً اساساً في المنظومة الإيرانية، وبالتالي ضمن المواجهة مع إيران.
وبما أنّ الإدارة الأميركية لا تريد، في الوقت ذاته، ضرب الإقتصاد اللبناني، أو النظام المصرفي اللبناني، بقي الكونغرس الأميركي مدة طويلة يبحث، من خلال مناقشات داخلية، ومقابلات مع ممثلي الحكومة اللبنانية وممثلي المصارف اللبنانية، كما فعلت أيضاً الإدارة الأميركية، قبل الوصول أخيراً إلى حلٍّ لهذه المسألة، أي وضع عقوبات جديدة على «حزب الله» لا تؤثر بشكل مباشر وكبير في الإقتصاد اللبناني والمصارف اللبنانية.
بعد هذا المخاض الطويل، تتالت الوثائق والمعلومات عن الحلّ المطروح، كان أوّلها مشروع القانون الصادر في الأسبوع الأول من الشهر الحالي،
عن مجلس الشيوخ والذي يحدّد أطرَ العقوبات على «حزب الله»، تلاها في الأسبوع الثاني إعلانُ البيت الأبيض عن «استراتيجية الرئيس ترامب الجديدة تجاه إيران»، ثم أعلن بعدها عن مشروع القانون 3329 الذي تتمّ دراسته وإقراره قريباً من قبل مجلس النواب.
أهم ما يمكن استخلاصُه من هذه الوثائق، ومن تصريحات المسؤولين الأميركيّين حول الموضوع، هو أنّ العقوبات الجديدة ستطال الأشخاص والمؤسسات والدول، خارج لبنان، التي تتعامل مع «حزب الله»، إما لجهة تمويله، أو التجنيد لصالحه أو دعمه مادياً، خصوصاً الدول الراعية للإرهاب (ضمناً إيران) وقد تتأثر به أيضاً دول أخرى، لا سيما في أفريقيا الغربية حيث هناك جالية شيعية كبيرة.
وتتضمّن العقوبات الجديدة تقريراً سنوياً حول السلطات، خارج لبنان، التي تسمح باستعمال أراضيها لأنشطة يقوم بها الحزب، بما في ذلك التدريب والتمويل والتجنيد.
أما العقوبات داخل لبنان، فيظهر أنها ستبقى كما كانت من قبل، تطاول أشخاصاً تعتبرهم الإدارة الأميركية متورّطين مع «حزب الله»، ومؤسسات تابعة له، ولا تطاول المصارف اللبنانية ما دامت تلتزم الإجراءات التي جرى الإتفاق عليها.
* سفير لبنان في واشنطن سابقاً