خالد غزال :
بداية، لا بد من التدقيق في ما يطلق عليه اليوم انتصار «معسكر الممانعة»، ودعوة اللبنانيين للتسليم بهذا الانتصار والخضوع إلى نتائجه ومترتباته. فإذا كان هذا «المعسكر» يطلق الصوت عالياً بانتصاره على الإرهاب التكفيري، فيجب تذكيره بأن هذا الإرهاب هو صنيعة هذا المعسكر ذاته، فـ «داعش» و «النصرة» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية ولدت وترعرعت ونفخت بواسطة النظامين الإيراني والسوري في شكل رئيسي، من دون أن ننسى أدوار بعض الدول الإقليمية، وهذه وقائع لم تعد خافية اليوم. صُنعت «داعش» من أجل هدف رئيسي هو ضرب الانتفاضات العربية وتحويلها إلى حروب أهلية، طائفية ومذهبية، بعد أن أرعبت الانتفاضات الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية التي شعرت أن رؤوسها سائرة نحو التدحرج. نعم، نجح «معسكر الممانعة» في هذا الدور، ولكن بعد أن استنفذ دور «الدواعش» وانتهت وظيفته، كان لا بد من انهاء هذا الموقع. فالانتصار المُدّعى من قبل «معسكر الممانعة» هو انتصار على نفسه وعلى القوى الإرهابية التي رعاها. وفي المقابل، هو انتصار على الشعوب العربية التي تنسمت من الانتفاضات إمكانية الخروج من السجن الكبير، توقاً إلى الحرية والعيش الكريم. هنا سجل «معسكر الممانعة»، حقاً، نصراً ساحقاً على أحلام الشعوب العربية في الخلاص من نير الديكتاتورية. لا يُستبعد أن تلجأ أنظمة الاستبداد مجدداً إلى خلق هذا «المسخ» كلما شعرت أن شعوبها تسعى إلى الاستيقاظ مجدداً والسير نحو التحرر من العبودية.
في العودة إلى ما يدور على الساحة اللبنانية من تصعيد للصراع تحت عنوان إنجاز «التحرير الثاني» وإنهاء التنظيمات التكفيرية، أسئلة كثيرة مطروحة حول كيف بدأت أحداث عرسال عام 2014، وماذا كان يراد للمدينة والمنطقة إجمالاً من عمليات تغيير ديموغرافي في سياق المشروع المذهبي المتصل بتصميم إيران على إنجاز الهلال الشيعي، وما كان سيحدث في البلد من تصاعد للفتنة المذهبية إذا ما سار المشروع في ما هو مرسوم له. كما تطرح اليوم أسئلة كثيرة عن معركة الجرود وكيف انتهت، وما طبيعة الصفقة التي أدت إلى تهريب الإرهابيين، وهذا العطف الشديد عليهم؟ هذه الأسئلة والأجوبة المتنوعة عليها تشكل مادة الصراع الأهلي اليوم، والذي لا يبدو أن مفاعيله ستهدأ قريباً، بالنظر إلى الأهداف السياسية من فتحه على النحو الجاري فيه.
استطراد صغير لا بد من إيراده، منذ انطلقت المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الثمانينات، اقترن عملها المسلح بشعارات ثلاثة شكلت أهدافها الفعلية: تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي واستعادة السيادة عليها، أن يشكل التحرير مدخلاً لاستعادة الوحدة الوطنية اللبنانية، ثم أخيراً أن يكون هذا العنصران مدخلاً لتسويات لبنانية على قاعدة الديموقراطية والقبول بالتنوع والاعتراف بالآخر. أنجز التحرير في 2000 بعد أن آلت المقاومة بفعل الحرب الأهلية والتدخل السوري إلى المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله. ما حصل بعد هذا التحرير كان بعيداً جداً عن الأهداف التي انطلقت منها المقاومة الوطنية، فأضاع اللبنانيون فرصة ثمينة لإعادة توحيد بلدهم، وعاد البلد ليغرق في الصراعات الطائفية والمذهبية حتى اليوم. في ما يدعى «التحرير الثاني»، بدا توظيفه السلبي أسوأ مما كان عليه عام 2000. هذا على رغم ما يحيط بهذا «التحرير» من أسئلة تصل إلى حد الشبهات في كيفية حصوله والصفقات التي تضمنته وتهريب المقاتلين وغيرها… بدا هذا «التحرير» أبعد ما يكون عن وسيلة لاستعادة اللحمة اللبنانية، بل هناك شكوك في أن يكون الصراخ المرافق له هدفه تغطية ما حصل فيه.
تبقى مسألة تتصل بالأهداف الفعلية في توظيف هذا التحرير، إنها قضية تتصل بالإفادة من التحولات في ميزان القوى العربية والإقليمية، وبالتالي الداخلية، نحو تغيير في المعادلات الداخلية اللبنانية لمصلحة غلبة فئوية ومذهبية. يتمظهر ذلك في خطابات الحكم الذي يرى في التطورات الأخيرة مادة تتيح له تنفيذ أجندته الخاصة في الانقلاب على النظام السياسي اللبناني وعلى اتفاق الطائف، كما تتمظهر في سعي قوى مذهبية لتكريس موقع شرعي أوسع في المعادلة الطائفية القائمة. في مقابل هذا السعي، لا تبدو الأطراف الأخرى في موقع المسؤولية عن استعادة اللحمة الوطنية وتغليب المصلحة العامة. فالخطاب المذهبي يقابله خطاب مماثل، ولا يهدف سوى تزكية نار الحقد والكراهية بين اللبنانيين. إنه خطاب ومسلك وممارسة تمهد مجدداً للحرب الأهلية الساخنة، كما كان عليه الأمر في السبعينات.
* كاتب لبناني