حالة التوتر وعدم الاستقرار السياسي، التي يعيشها لبنان منذ أكثر من عشر سنوات، لن تنتهي مع نهاية ولاية المجلس النيابي الحالي مطلع الأسبوع المقبل، ولا في إقرار القانون العتيد للانتخابات في مجلس الوزراء بعد غد الأربعاء!
الاهتزاز السياسي المستمر، والذي أحال حياة اللبنانيين إلى جحيم لا يُطاق، على إيقاع الازمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية المتفاقمة، مرشّح للاستمرار فترة أخرى، بسبب الصراع المستعر بين الخطاب الشعبوي المسيحي الذي يحاول، عبر المزايدات والبهلوانيات السياسية، إعادة البلد خمسين سنة إلى الوراء، تحت شعار استعادة حقوق المسيحيين، وإحياء المارونية السياسية، التي أوصلت البلاد والعباد إلى حروب طاحنة، ما زال اللبنانيون، كل اللبنانيين يدفعون ثمنها غالياً!
ويبدو أن أصحاب المشروع الطائفي الشعبوي «لا يفكّرون أبعد من منخارهم»، كما يقول المثل الفرنسي، في التعاطي مع المرحلة الحسّاسة والمعقدة التي يمر بها الوجود المسيحي في هذا المشرق، بعد تهجير أكثر من مليون مسيحي من العراق، وبضع مئات الآلاف من مسيحيي سوريا، الأمر الذي يتطلب الكثير من الحكمة والتعقل للحفاظ على الدور المسيحي في لبنان، وعلى ما تبقى من وجود مسيحي في سوريا والعراق، والعمل على إعادة من هجروا أرض أجدادهم هرباً من نيران الحروب الهمجية في سوريا والعراق.
المشكلة أن «البعض» يتشاطر في استغلال تمسّك المسلمين بالشراكة الوطنية مع المسيحيين، وبالمبادئ والقواعد التي أرسى أسسها دستور الطائف، والميثاق الوطني المنبثق عن اتفاق الطائف، ويذهب بعيداً في اللعب على الأوتار الطائفية والمذهبية، من دون أن يعمل أي حساب واقعي، لردود فعل إسلامية من العيار نفسه، تؤدي، في حال حصولها، إلى الإطاحة بأسس الشراكة التي ارتضاها المسلمون، وفي طليعتها المناصفة في مجلس النواب وفي مجلس النواب، وفي الوظائف العامة.
ماذا تنفع المزايدات والخطابات الشعبوية إذا أوصلت المسيحيين إلى حالة من الضمور في السلطة والحياة العامة، إذا عادت طروحات الديمقراطية العددية، وما تقتضيه من توزيع السلطة بين المسيحيين والمسلمين وفق حجم كل طرف، أي ثلث للمسيحيين، وثلثين للمسلمين؟
ماذا يبقى من لبنان «الصيغة والرسالة»، كما وصفه البابا التاريخي يوحنا بولس الثاني، إذا تقوقع المسيحيون في مناطقهم، وتراجع وجودهم ونفوذهم في الدولة؟
ألا نكون أمام مشكلة إحباط وهجرة مسيحية من البلد، كما حصل في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي؟
وهل تستحق زيادة نائبين لهذا الفريق، وثلاثة نواب مثلاً لتيار سياسي مسيحي آخر، مقابل أن يخسر المسيحيون دورهم الوازن في الجمهورية، ونعرض البلد كلّه لمغامرات سياسية وأمنية غير محمودة العواقب؟
الواقع أن الخطاب المسيحي الشعبوي والمتزمّت، الذي يردده الوزير جبران باسيل، لم نسمع مثيلاً له في أحلك الأزمات، حتى خلال سنوات الحرب، فالرئيس بشير الجميّل تخلى عن خطابه المسيحي بمجرد انتخابه رئيساً للجمهورية، وفاجأ اللبنانيين بخطاب وطني شامل قبل أن تطأ قدماه قصر بعبدا، ويتسلم مقاليد الجمهورية!
فلماذا الاستمرار بهذا الخطاب الشعبوي، بعدما أصبح مؤسس التيار الوطني الحر رئيساً للجمهورية، ويمارس كامل سلطاته وصلاحياته الدستورية؟
المسلمون متمسكون بالشراكة الوطنية، وبكل الأسس والقواعد التي قامت عليها الصيغة اللبنانية، المرشحة أن تكون نموذجاً للحلول السياسية الوطنية في دول الخريف العربي، ولكن إرادة المسلمين وحدهم لا تكفي، إذا لم يشعروا أن الشريك المسيحي يبادلهم حرصاً مماثلاً، لأن لبنان لا يستمر إلا بإرادة مشتركة بين المسلم والمسيحي للعيش الواحد، والحفاظ على وطن الرسالة!
افتتاحية جريدة اللواء – للاستاذ صلاح سلام