ما أثاره النائب جورج عدوان أول من أمس في اليوم الأول من جلسة المجلس النيابي حول حجم الأرباح التي يحولها مصرف لبنان إلى وزارة المالية وإعلانه أنه سيتقدم بطلب تشكيل لجنة تحقيق، كان له تردداته بالأمس في الأوساط الاقتصادية والمصرفية التي اعتبرت أن كلام عدوان لم يرتكز إلى معطيات وأرقام دقيقة عن وضعية مصرف لبنان على صعيد موجوداته ومطلوباته.
وقد التقى أمس في خلوة بعد انتهاء الجلسة الصباحية لمجلس النواب، رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، بحضور وزير المالية علي حسن خليل والنائب عدوان.
لا بد من التذكير بداية بأن مصرف لبنان الذي انشئ في العام 1963 بموجب قانون النقد والتسليف، وباشر عمله فعلياً في الأول من نيسان من العام 1964، يؤدي وظائف محددة في القانون تشمل بصورة رئيسية إصدار العملة الوطنية، وتنظيم الكتلة النقدية، ومراقبة معدلات الفائدة (تكلفة الاقتراض)، وتطوير القطاع المصرفي والمالي والإشراف عليه.
أما مهمته فحددها القانون بالمحافظة على سلامة النقد وتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم. وهي تشمل بشكل خاص:
– المحافظة على سلامة النقد اللبناني.
– المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
– المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي.
– تطوير السوق النقدية والمالية.
– تطوير وتنظيم وسائل وأنظمة الدفع لا سيما العمليات التي تجرى عن طريق الصراف الآلي وبطاقات الإيفاء ـو الدفع أو الائتمان.
– تطوير وتنظيم عمليات التحويلات النقدية بما فيها التحويلات الإلكترونية.
– تطوير وتنظيم عمليات المقاصة والتسوية العائدة لمختلف وسائل الدفع والأداوت المالية بما فيها الأسهم والسندات التجارية وغيرها من السندات القابلة للتداول.
كما حدد القانون علاقة مصرف لبنان بالحكومة اللبنانية، بأنه يتعاون معها ويقدم لها كل مشورة تتعلق بالسياسة المالية والاقتصادية بغية تأمين الانسجام الأوفر بين مهمته وأهداف الحكومة. كما يقترح على الحكومة التدابير التي يرى أن من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وحركة الأسعار والمالية العامة وعلى النمو الاقتصادي بصورة عامة. ويطلع الحكومة على الأمور التي يعتبرها مضرة بالاقتصاد والنقد، ويؤمن علاقاتها بالمؤسسات المالية الدولية. وفي المقابل، تستشير الحكومة مصرف لبنان في القضايا المتعلقة بالنقد، وتؤمن الدوائر الحكومية ومؤسسات القطاع العام ومؤسسات الاقتصاد المشترك لمصرف لبنان الإحصاءات والمعلومات التي قد يحتاج إليها في دراساته الاقتصادية.
وبالتالي، فإن المهمة الأبرز لمصرف لبنان المنوطة به حسب قانون النقد والتسليف هي المحافظة على سلامة النقد والاستقرار الاقتصادي. وهو ما أنجزه رغم الأوضاع الاستثنائية التي مر بها لبنان ويمر بها.
أما كلام النائب عدوان أول من أمس في المجلس النيابي الذي عبّر عن صدمته من أن «الواردات من مصرف لبنان 61 مليار ليرة، نحن لدينا 27 ألف مليار سندات خزينة والمصرف مُجبر بدفع مليار دولار لخزينة الدولة من أرباحه على السندات»، فهو كلام «غير دقيق» بحسب ما قالته مصادر مالية متابعة في تصريح لـ«المستقبل».
تقول هذه المصادر إن الوضعية المالية لمصرف لبنان لا تقتصر على محفظته من الأوراق المالية فقط. فموجوداته التي يجبي منها ايرادات تشمل:
– المحفظة الاستثمارية في الخارج التي يحصل منها مصرف لبنان على فائدة متدنية لا تتعدى الواحد في المئة.
– محفظة الأوراق المالية لا سيما سندات الخزينة وسندات اليوروبوندز التي يقوم المصرف المركزي بشرائها مقابل فائدة تراوح بين 6 في المئة و7 في المئة.
– تسليف المصارف اللبنانية كما يحصل راهناً، إذ يقوم مصرف لبنان بإقراض المصارف بنسبة 2 في المئة بهدف تشجيعها على الاكتتاب في سندات الخزينة، وذلك في وقت تسعى المصارف إلى خفض المخاطرعلى محفظاتها المالية (أو ما يُعرف بـDERISKING)ـ على اعتبار أن حملها سندات خزينة يضطرها إلى تكوين رأسمال أكبر.
أما مطلوبات «المركزي» فتتضمن:
– ودائع المصارف التي تتخطى اليوم الـ95 مليار دولار.
– ودائع القطاع العام (وحجمها نحو 6 مليارات دولار).
– شهادات الايداع التي يصدرها المصرف المركزي للمصارف.
كل هذه البنود المدرجة في باب المطلوبات يسدد مصرف لبنان فوائد مقابلها. وبالتالي، فإن ما يسدده لإنجاز مهمته يفوق الفوائد التي يحصل عليها لقاء توظيفاته، بحسب المصادر التي أكدت أن «لا صحة لما يُقال إن مصرف لبنان يحقق أرباحاً خيالية».
ولفتت إلى أن كل ما يقوم به مصرف لبنان من هندسات وآليات غير تقليدية يصب في تحفيز المصارف على الاستمرار في تمويل عجز الخزينة، وإلا سيكون عندها مضطراً لرفع معدلات الفائدة، وبالتالي تكبيد الخزينة اللبنانية خدمة دين أعلى بكثير من مستواها اليوم… وبذلك فإن ما يقوم به مصرف لبنان يصب في خانة التخفيف من عبء المديونية على الخزينة اللبنانية.. وهو يتحمل تبعات هذه السياسة على ميزانيته وعلى حساب الأرباح والخسائر الخاص به.
وأوضحت المصادر أن ما يقوم به مصرف لبنان هو من ضمن الوظيفة المنوطة بأي مصرف مركزي في العالم، أي أن يتدخل في السوق لكي يحافظ على سياسة نقدية معينة مُتفق عليها. وقالت «صحيح أن سياسة تثبيت سعر الصرف تكلف مصرف لبنان، لكن في حال اتخاذ سياسة معاكسة ستكون عندها الخسارة على الاقتصاد أكبر بكثير مما يتكبده مصرف لبنان لقاء التثبيت».
في تقريره عن «تقويم استقرار النظام المالي في لبنان»، يقول صندوق النقد الدولي بما حرفيته: «يلعب مصرف لبنان دوراً أساسيا في الحفاظ على الثقة، ولكن من دون تصحيح مستدام لوضع المالية العامة، فإن هناك حدوداً لهذه السياسات: إن مصرف لبنان يحافظ على مستوى فوائد مستقر ومنخفض رغم أنه يشتري دين الحكومة (المحلي والخارجي منه)، والذي لا تمتصه المصارف. بالتوازي، فإن مصرف لبنان يصدر شهادات إيداع طويلة الأجل وسندات خزينة، ما يزيد التكلفة عليه. أن مصرف لبنان يحافظ على سعر الصرف من خلال تدخله ويملك احتياطات مرتفعة بالعملات من خلال ودائع المصارف، وهو ما يحمّله المزيد من التكاليف… تحمل التكاليف والتدخل في أسواق العملات والدين والإجراءات التحفيزية لها تأثيرها على ميزانية مصرف لبنان. ومن دون تصحيح مستدام لوضع المالية العامة وتقليص الحاجات المالية للاقتصاد، فإن قدرة مصرف لبنان على أن يكون صانع سياسات الملاذ الأخير – وللقيام بذلك، التوسع في ميزانيته والمحافظة على معدلات الفوائد، والاحتياطات والتثبيت، وإدارة الاقتصاد – سوف تكون طويلة التحقق».
غبريل
كبير الاقتصاديين ومدير قسم البحوث والدراسات الاقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس نسيب غبريل، أوضح في تصريح لـ«المستقبل» أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف مصرف لبنان. وقال «صحيح أن مصرف لبنان يدفع فوائد إن على شهادات الإيداع التي يصدرها أو على الودائع غير الإلزامية للمصارف، أو على الاحتياط الإلزامي، لكن بدل التصويب على سياسات المصرف المركزي وحاكمه كان الأجدى مناقشة مسألة كيفية خفض عجز الموازنة. هذا العجز الذي يدفع مصرف لبنان إلى القيام بهندسات غير تقليدية من أجل تمويله». أضاف «ينبغي تصويب النظرة العامة نحو مكامن الضعف والخلل الحقيقي في الأوضاع الاقتصادية في لبنان. إذ يكمن هذا الخلل في معالجة ثغرات المالية العامة للدولة اللبنانية من مكافحة مصادر الهدر والفساد، وتطوير أسس البنية التحتية». وتساءل عن سبب عدم إثارة موضوع التهرب الضريبي حيث أن 25 في المئة فقط يدفعون ضرائبهم بالكامل في لبنان، أو مسألة الاقتصاد الموازي الذي يُشكل 30 في المئة تقريباً من حجم الاقتصاد حسب الحسابات الوطنية، أو عن سبب عدم تحسين الجباية، أو عن أصحاب المولدات الخاصة الذين لا يخضعون لضريبة القيمة المضافة أو ضريبة الدخل. ودعا إلى العمل على خفض النفقات العامة التي ارتفعت بنسبة 119 في المئة بين أعوام 2005 و2016، مشيراً إلى العبء الذي يتحمله القطاع المصرفي من أجل تمويل عجز الخزينة واستقطاب رؤوس الأموال في ظل التراجع في تدفق العملات الأجنبية والاستثمارات الأجنبية المباشرة والمداخيل السياحية في السنوات الأخيرة، وتراجع الصادرات.
واستغرب غبريل استهداف المصرف المركزي في وقت حصلت السياسات التي يطبقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامه على ثناء من المؤسسات المالية الدولية.
شقير
ونوه رئيس اتحاد الغرف اللبناينة محمد شقير بما أنجزه حاكم مصرف لبنان رياض سلامه في السنوات الأخيرة، وقال في تصريح لـ«المستقبل» إن الإجراءات التي اتخذها حمت الاقتصاد في عز الأزمات، في وقت كانت مختلف القوى السياسية متلهية بصراعاتها وتجاذباتها، وأنه اتخذ مبادرات عززت صمود الاقتصاد وحمت الليرة ووفرت استمرار تمويل الدولة. أضاف «ما حصل يظهر انه كان هناك تسرع لأنه لم يأخذ على محمل الجد ما يمكن أن يعكسه على الاقتصاد وعلى الوضع المصرفي في البلد… المهمة التي يقوم بها في موضوع تطبيق العقوبات ووضعه تحت المجهر في واشنطن كان يجب أن يواكب محلياً، لا أن يتم استهدافه بطريقة غير منطقية فيما البلد بأمس الحاجة إلى جهوده لحماية وضعه المالي والمصرفي وإبقاء العلاقة جيدة بين مصارفنا وبين المصارف المراسلة والتي تشكل الشريان الحيوي لاقتصادنا».
(المستقبل)