لم يكن تَواري الشمس خلف الغيوم المكفهرّة في سماء بيروت أمس، سبباً كافياً للمَشهد الداكن والمقفر والمُوحِش… ثمة مَن تذكّر بأنه في يومٍ مُشابِهٍ قبل خمسة أعوام اغتيل في وسط العاصمة وفي وضح النهار رجلٌ اسمه محمد شطح. لم يكن أحد يتوقّع أن هذا السياسيّ النبيل، الأكاديمي الحالِم والمُحاور الرؤيوي، سيكون الهدف الـ 11 للقاتِل المُتَسَلْسِل، الذي غالباً ما اختار ضحاياه بعنايةٍ منذ العام 2005 حين صدَرَ القرارُ الكبير بتفجير رفيق الحريري لوضع اليد على لبنان.
سُجِّلَتْ يومَها جريمةُ اغتيال المستشار الديبلوماسي لزعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري ضد مجهولٍ – معلوم، وكذلك استمرّت الاسئلةُ عن سرّ «الرسائل» التي تَطايرتْ مع انفجار 27 ديسمبر 2013 في اللحظة التي كانت البلاد، كما هي الآن، في ورطةِ تشكيل حكومةٍ بحساباتٍ تتصل بمعركةٍ رئاسية على الأبواب مع العدّ التنازلي لانتهاء ولاية الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان، الذي خرَج بعدها من القصر ليسكنه فراغٌ مديد استمرّ 30 شهراً.
أكثر الاستنتاجات رواجاً آنذاك كانت أن دم شطح استُخدم لكسْر المأزق السياسي – الدستوري الناجم عن عجْز الرئيس المكلف تشكيل الحكومة حينها تمام سلام عن إنجاز مهمته على مدى نحو 11 شهراً من الفيتوات المتبادلة التي انتهتْ بحكومةِ تسوية من 24 وزيراً (حكومة 8+8+8) سَلّمت عبْرها «14 مارس» بربْط نزاعٍ مع «حزب الله» وبإشاحة النظر عن تورُّطه العسكري في سورية دفاعاً عن نظام الرئيس بشار الأسد وفي إطار المشروع الإيراني في المنطقة.
شطح كان صاحب «المُلْكية الفكرية» للدعوة إلى قيام حكومةٍ حيادية من تكنوقراط لإدارة البلاد، قابَلَتْها يومها قوى «8 مارس» بقيادة «حزب الله» بالتلويح بالفوضى والمجهول… ولم يكن عابراً في ظل تمادي مأزق تشكيل الحكومة الآن في بيروت صدور دعواتٍ مماثلة للاتيان بحكومةٍ حيادية من اختصاصيين شكّلت العلامةَ الفارقةَ في خطب الميلاد وعلى لسان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي ومتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة.
ورغم ان قيادياً في تيارٍ سياسي بارز كشف لـ «الراي» عن خشيته من تكرار «سيناريو شطح» أو حدوث تطوّر ذات طبيعة دراماتيكية، أمنية أو مالية لاقتياد الجميع إلى حكومة إضطرارية، فإن أوساطاً سياسية واسعة الاطلاع تبدو أكثر ميلاً إلى انتظار ما سيؤول إليه خروج الجمر من تحت الرماد في العلاقة المهتزَّة بين الحليفيْن اللذين شكّل حلفهما قاطرةً للحياة السياسية، أي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و«رأس حربة» عهده، رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل من جهة، و«حزب الله» من جهة أخرى.
ولم يعد خافياً أن احتجاز عملية تشكيل الحكومة في «مترها الأخير» ولمرتيْن يعود إلى صراع، لم يعد مكتوماً بين «حزب الله» و«التيار الحر»، ويتجاوز بطبيعة الحال مسائل تكتية ترتبط بمقارباتٍ سياسية لعناوين داخلية، بل يتّصل بـ «القرار لمَن» وسط أزمةِ ثقةٍ فعلية بين الحزب ومَن يعتبره «الرئيس الظل»، أي باسيل، وهي الأزمة التي انفجرت بين «البيئتين» عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الشاشات أحياناً.
ومِن أكثر المفارقات إثارة في الحملات المتبادلة بالواسطة بين الحزب والتيار، هي عرْضُ سردياتٍ لأفضال كل طرفٍ على الآخر مع لائحة اتهامات تكاد أن تلامس الخطوط الحمر… كالقول إن الحزب، الذي تحوّل إلى جيش للدفاع عن الأقليات في بحر يحكمه التطرف، حمى المسيحيين وحَفَظَ وجودهم ووفى بوعده في إيصال العماد عون إلى رئاسة الجمهورية، وتالياً حقّق لهم معركتين إستراتيجيتين، والقول إن التيار فك العزلة السياسية عن الحزب يوم تحالَف معه وحمى ظهره إبان عدوان الـ 2006 ومكّنه عبر قانون الانتخاب الذي تبنّاه من إضعاف الحريرية السياسية وكسْر أحادية تمثيلها للسنّة.
أما لائحة الشكوك وما تنطوي عليه من اتهاماتٍ، فتغمز من قناة أخذ باسيل مسافةً عن الحزب لإرضاء الغرب ودول الخليج، وابتزازه لانتزاع وعْدٍ بدعمه في الانتخابات الرئاسية والسعي لتطويق حلفائه وما شابه، مقابل إيحاءات بشنّ حربٍ ساخنة على العهد لإفشاله وتهشيم صورة باسيل ومنْع فريق رئيس الجمهورية من إمتلاح حصة وزارية تعيد التوازن الى السلطة التنفيذية وإدارة تحالفاتٍ من الخلف للحدّ من اندفاعة التيار الحرّ، إضافة إلى ما لمح إليه عون أخيراً حين تحدّث عن محاولة البعض فرْض أعراف وتقاليد جديدة في تشكيل الحكومة.
ورغم محاولاتٍ صعبة لإخفاء مَظاهر الاضطراب في العلاقة بين «حزب الله» و«التيار» وضبْط إيقاعها توصُّلاً لتفاهُمٍ ما يسهّل الإفراج عن الحكومة المسترْهَنة منذ نحو سبعة أشهر في صراعٍ على التوازنات «الحاكمة» في السلطة، فإن الاعتقاد السائد هو إن مشواراً شائكاً بدأ بين الطرفيْن نتيجة طبيعة مشروعيْهما اللذين انتقلا من المساكنةِ في الطريق للقصر إلى المشاكسة في توزيعِ كعكة السلطة.
(الراي)