كتب المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم افتتاحية مجلة الامن العام بعنوان: كي لا يصبح اللبنانيون “رُحَلاً”
وجاء فيها:
لبنان، كغيره من النظم السياسية الجمهورية البرلمانية الديموقراطية التي تحتاج لاستمرارها، في مسالك التقدم، الى البرامج السياسية المتباينة والمتنافسة والمختلفة حتى. هذا التباين المطلوب والضروري لتطور النظام السياسي ضمن ثوابته الدستورية، لا يعني على الاطلاق ما آلت اليه حال اللبنانيين ولبنان على مختلف المستويات. اكثر ما يحتاج اليه لبنان في ظل الظروف المتراكمة منذ سنوات، رجال دولة يتبصرون المستقبل بعين ثاقبة ويتجاوزون العقبات والمعوقات، اكثر من حاجته الى رجال سياسة لا يرون الا الراهن السيء ويقفون عاجزين امامه وتدفعهم المعوقات الى الارتداد الى الوراء.
مآل الاوضاع السياسية، على ما فيها من ظروف ووقائع الكثير منها خارج عن قدرات اللبنانيين، لا تسلب اللبنانيين حقهم المستمر في السؤال عن كيفية الحفاظ على البلد واهله، وفيه ما فيه من اهوال الانقسام والفساد والسمسرة والاهتراء الاجتماعي والاقتصادي.
السؤال هنا لا يقع في خانة التبرير او التفهم، بل في باب المسؤولية الوطنية صونا للبنان واللبنانيين. ذلك ان عدم الاستقرار السياسي معطوفا على ازمات البلد الطائفية، واعتماد منطق التكفير السياسي والاقتصادي والاجتماعي واحيانا الديني ـ من الكل وضد الكل ـ يحسم بأن المستقبل مخيف، يتفلت من الطمأنينة التي يفترض بالدولة توفيرها، كون هذه الطمأنينة وهذا الاستقرار هما وظيفتان من وظائف الدولة.
الاستقرار السياسي المنشود والمطلوب ليس ذاك الذي يقوم على الخوف من السلطة واجهزة الدولة الامنية والقضائية، الا بوصفها آليات لتأمين انتظام المجتمع وفقا للنصوص الدستورية والقوانين المرعية الاجراء. بل الاستقرار القادر على استثمار الظروف والوقائع، والتعامل معها بحرفية ومهارة لمنع الانقسامات المجتمعية والتي بعضها يروم الحرب من غير ان يعلن اهواءه وميوله. وهو ذاك الاستقرار الذي يعطي الانطباع بتماسك وثبات النسق السياسي في ظل ما يواجهه الاجتماع الوطني من ازمات وارتجاجات، تبدأ مع العدو الاسرائيلي عند الحدود مع فلسطين المحتلة، ولا تنتهي عند ملاحقة الارهابيين، ومكافحة الجريمة المنظمة والجرائم الفردية، مرورا بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ما يعرفه اللبنانيون جميعا ويشيحون بنظرهم عنه، هو ان الاستمرار في ظل العقليات الحالية اشبه بالمحال. لكن المؤسف ان الغالبية لا تزال تردد اللغة السياسية عينها، على الرغم من كل ما حل بلبنان.
السيء في هذا السياق ان الحال الراهنة لا تزال تتكرر منذ قيام لبنان الحديث، خصوصا في ما يتعلق بعدم ثبات الاستقرار السياسي والاصرار على استجلاب مشاكل الخارج الى الداخل الهش، بفعل توزع الولاءات الطائفية والسياسية في جهات الارض الاربع، ورفعها وجعلها اولوية تتقدم الوحدة الوطنية والدولة القوية الضامنة للجميع، بغض النظر عن هوياتهم ومعتقداتهم الروحية والثقافية.
صار الانشغال بتحليل عوامل عدم الاستقرار من باب التردي الاجتماعي ـ الاقتصادي والتدهور المؤسساتي، اكثر من الاهتمام بتعيين عناصر الاستقرار والبناء عليها لتجاوز المعوقات والتقدم الى الامام، سمة من سمات الوضع القائم. بمعنى ان العمل صار على مثال ما يقوم به المتعصبون الدينيون او “العقائديون النصيّون”، الذين متى واجهتهم مشكلة عادوا الى الوراء والى النصوص الاولى للبحث عن الحل، في حين ان العصرنة والحداثة والدولة المدنية تفترض العمل لتجاوز العقبات في اتجاه مسارات التطور.
العطب السياسي ليس في التعدد الديني والمذهبي والثقافي، انما في الاستغلال السياسي وتعامله مع هذه التعددية من طريق استثارة الهويات والعصبيات الضيقة في مقابل الآخر، والتمترس خلف خصوصيات الجماعات على حساب الدولة والوطن، ما ينتج ولاءات غير لبنانية، بل ولاءات ما دون وطنية. بالتالي ضعضعة الوحدة الوطنية لصالح الوحدة الطائفية. فلا يضير الانسان ان يكون مؤمنا. على العكس، بل ما يهلكه هو وغيره ومعهم البلد هو الاتجار بالهويات الضيقة وجعلها اولا.
ان الواقع يستدعي التحذير من سياسات “حافة الهاوية”، وسياسات المغامرة كي لا يصبح اللبنانيون “رُحَلاً” في العالم. ذلك ان تقارير معدلات طلبات الهجرة الى ارتفاع خطير، وتوازيها وتتفوق عليها معدلات بطالة مرعبة لا تبشر بالخير على الاطلاق، في حين ان المخدرات تنتشر كالوباء. فقد صار لبنان مصدّراً للبشر وليس للسلع والخدمات فقط. في مقابل النسبة المتزايدة للبطالة يرتفع عدد المهاجرين اللبنانيين وفقا للجنة الامم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا).
في ظل حال كهذه، فإن لبنان صار مُولّدا للبطالة كون الاقتصاد الوطني تتراجع قدراته في خلق الوظائف، وان حصل ففي الانشطة ذات الانتاجية والمهارات المنخفضة، واحيانا في مجالات العمل اللانظامي المحروم من الحماية الاجتماعية والقانونية. رب قائل ان تحويلات اللبنانيين توفر العملات الاجنبية، وهذا صحيح . لكن ما ينبغي الوقوف عنده بتأنٍ ومن دون ادعاء هو ان هذه التحويلات والودائع صحيح انها تؤدي دورا اساسيا ومحوريا في توفير العملات الاجنبية وزيادة الودائع المصرفية، انما تبقى من دون عمل او دور في انتاج اقتصاد محلي حقيقي، يبقى قيامه مرهونا بمبادرات خلاقة من رجال المال والاعمال والاقتصاديين، لأن ممرات الهجرة راحت تضيق حتى الاغلاق في ظل ما طرحته الحرب السورية عالميا على مستوى قضية اللاجئين والنازحين.
قضية النازحين السوريين تلك، يجب النظر اليها بعناية شديدة، ليس من باب التحريض على هؤلاء وهم ضحايا، كما ليس من باب المزايدة الانسانية بنية الاستقواء بهم. عديد اللاجئين شكل استنزافا فعليا للاقتصاد الوطني ومضاربة على العمالة اللبنانية. فإذا كان صحيحا ان غالبية من اللبنانيين تعفُ عن بعض المهن، فهذا لا يعني انهم لا يعملون في تجارة الخضر واللحوم والالبسة والاحذية والحرف المهنية والسياحة. صار لزاما مراقبة الاسواق وضبطها كضرورة قصوى ومهمة واولوية للحد من نسب البطالة، واعادة فتح المجال امام المبادرة الفردية للانخراط في الاقتصاد الوطني.