زيزي إسطفان
بين لعنة الشاحنات والسرعة والهواتف
كأنها الإبادة الجماعية تلحق باللبنانيين على الطرقات، 170 ضحية نتيجة حوادث السير في لبنان حتى شهر تموز من العام 2022 والعدّ للأسف لم ينته بعد، وكانت سنة 2020 قد شهدت سقوط 410 ضحايا و4174 جريحاً فيما شهد عام 2021 سقوط 371 قتيلاً و3841 جريحاً رغم الجائحة. أرقام مرتفعة جداً إذا ما قيست بمساحة البلد وعدد سكانه. حوادث قاتلة وشاحنات تزرع الموت على الطرقات وسائقون يتصرفون بلا وعي. هل نحمّل الدولة المسؤولية كما نفعل دوماً أم نراجع أنفسنا لنعرف أين مكمن الخطر القاتل؟
في توقف قسري على جانب الأوتوستراد الساحلي تسنّى لأحد الزملاء مراقبة العابرين بسياراتهم على هذا الشريان الحيوي وتأمل وجوههم واهتماماتهم وهم يقودون سياراتهم، فإذا بمرصده الحاد الملاحظة يكشف عن تسع سيارات من أصل عشر ينشغل فيها السائق والسائقة بهاتفه مع لفتات سريعة ومتسرعة نحو الطريق أمامهم، وأثارت انتباهه إحداهن أكثر من غيرها وقد كانت تحمل هاتفين و»تلحق» على كليهما. فيما وجوه كثر بدت شاردة تنظر الى الطريق وكأنها لا تراها. هل صار الناس أعداء أنفسهم؟ ما عادت تهمهم حياتهم ليتركوها فريسة حوادث السير القاتلة؟ أم حرام أن نحمّل الناس ذنب طرقات قاتلة تلتهم أرواحهم في العتمة والضوء وشاحنات مفترسة أنهكتها الصيانة الغائبة؟
اليازا تحذّر
«هو واقع مأسوي، يقول زياد عقل رئيس جمعية اليازا، وقد بلغ ذروته في شهر تموز الذي حصد 40 ضحية و210 جرحى قد يتعرض بعضهم للوفاة نتيجة الإصابات البالغة التي تعرضوا لها وشهد تموز بشكل خاص حوادث شاحنات قاتلة رغم تراجع عدد حوادث السير بشكل عام نتيجة ارتفاع سعر البنزين وتراجع استخدام الناس سياراتهم. واقع يكاد يخرج عن السيطرة مع تحول الشاحنات الى قنابل موقوتة تهدد الناس على الطرقات في كل لحظة. لا مراقبة من قبل أي طرف وتقصير كبير من قبل قوى الأمن في تطبيق قانون السير وفرض الالتزام به. شاحنات لا يلتزم كثيرها بالحمولة القانونية ولا يقوم أصحابها بالصيانة الضرورية لها بعد أن باتت كلفة الصيانة موجعة. المعاينة الميكانيكية غائبة «فرطتها» السياسة والمصالح الخاصة ومعها غابت مراقبة حالة الشاحنات وأهليتها للسير على الطرقات ما حوّلها الى مركبات قاتلة كما في حادث انقلاب الشاحنة على طريق المتن السريع الذي بيّن تقرير الدفاع المدني أن السبب يعود الى تعطل مكابحها. والقبان الذي كان يرصد وزن حمولة الشاحنات غاب بدوره عن الطرقات الرئيسية وسائقون يقودون لمسافات طويلة على طرقات تنتفي فيها الصيانة وإشارات السير، تملأها الحفر وتغيب عنها الإنارة».
كوكتيل متفجر يصيب بشظاياه الجميع على حد سواء من سائقي الشاحنات وسائقي السيارات وركابها وسائقي الدراجات النارية والمشاة وما حادث عرسال الذي أودى بحياة ثمانية أشخاص من عائلة واحدة نتيجة اجتياح شاحنة محمّلة بـ40 طناً من الصخور سيارتهم وانقلاب شاحنة على طريق المتن السريع واصطدامها بعدد من السيارات مع جرح ثلاثة أشخاص من بينهم سائقها إلا مثالان دمويان صارخان على هذا الخطر المتربص بالناس.
«لقد وجّهنا أكثر من نداء الى كل مستخدمي الطرقات ونبّهنا الى ضرورة الالتزام بقانون السير وإجراء الصيانة الضرورية للمركبات للتأكد من كونها جاهزة للسير على الطرقات وتوجهنا الى أصحاب الشاحنات بالذات للتحلي بالوعي الذاتي والتأكد من وضع شاحناتهم بانتظار أن تستفيق الدولة وتطبق قانون السير وذلك حفاظاً على حياتهم وحياة من يحبون. كذلك نتوجه دوماً الى الشباب لتجنب مخاطر السرعة وتلافي استخدام الهاتف أثناء القيادة، علّنا بذلك نساهم في جعل شهر آب وكل الأشهر أكثر أماناً على الطرقات».
وكانت اليازا قد أطلقت نداء الى وزير الأشغال للعمل على صيانة الفواصل الحديدية على الجسور فوق الطرقات الرئيسية التي تتسبب بحوادث مستمرة لا سيما بالنسبة للدراجات. وما هي إلا ساعتان بعد النداء حتى أدى أحد هذه الفواصل الى حادث سقوط شاحنة عن جسر نهر الموت أدى الى وقوع ثلاثة جرحى، ما ينبئ أن المشكلة تهدد بحصد المزيد من الأرواح والتسبب بمزيد من الكوارث المرورية. وفي النداء ذاته طالبت وزير الداخلية بإعادة المعاينة الإلزامية للسيارات والشاحنات بشكل خاص حتى تكون الحوادث القاتلة التي شهدها شهر تموز عبرة لتلافي المزيد من زهق الأرواح.
تراجع في الداخل وزيادة على الطرقات الرئيسية
ما تحذر منه اليازا ومعها غرفة التحكم المروري يؤكده خبراء السير في لبنان وإن بوجهة نظر مختلفة. فحوادث السير التي تتطلب حضور خبير قد انخفضت بشكل كبير ووصلت نسبة انخفاض عمل خبراء السير الى 60% كما يؤكد لنداء الوطن الخبير المحلف لدى المحاكم والنيابة العامة إيلي رشيد الذي يؤكد أن الخبير كان في ما مضى يعاين يومياً أربعة الى خمسة حوادث سير فيما اليوم لا يزيد الأمر عن واحد أو اثنين نتيجة تراجع استخدام السيارات بفعل غلاء البنزين والأزمة المعيشية ولسبب إضافي هو عدم خضوع الكثير من السيارات حالياً للتأمين نظراً لارتفاع كلفة بوالص التأمين ما يجعل أصحاب السيارات يتحاشون الاتصال بخبير في حال حصول حادث سير لكن رشيد لا ينكر أن حوادث السير قد ازدادت على الأوتوسترادات والطرقات الرئيسية وان المعدل العام للقتلى والجرحى قد ارتفع.
حين نسأل الخبير عن أسباب حوادث السير التي يشهدها لبنان حالياً وإذا كان بالإمكان وضع جدول تراتبي لها يجيبنا وبحسب خبرته أن عوامل جديدة دخلت على خط حوادث السير أولها الموتوسيكلات التي يقودها عمال الدليفري والتي تضاعفت أعدادها مرات ومرات فهؤلاء يسببون إرباكاً للسائقين نظراً لكونهم يتسللون بين السيارات بشكل غير منتظم ما يسبب بحصول حوادث قد لا تسبب ضرراً بالنسبة للسيارة لكنها دائماً مؤذية او قاتلة بالنسبة لسائق الدراجة. كذلك لا يمكن تجاهل سائقي الدراجات الذين يحملون عائلة بأكملها على دراجاتهم مسببين بذلك خطراً عليهم وعلى السائقين. وهنا يجدر القول إن شركات التأمين لم تعد تغطي دخول المستشفى للجرحى عند وقوع حادث أو تؤمن تغطية بسيطة جداً.
ومن الأسباب الأبرز للحوادث استخدام الهواتف النقالة أثناء القيادة ولا سيما من قبل الشابات المبتدئات كما يؤكد الخبير فهن يلتهين بالهاتف أثناء القيادة أو بالماكياج ومعظمهن لا يملك بعد الخبرة الكافية للتحكم بالسيارة أو تقدير الوقت الضروري للتوقف عند استخدام المكابح ما يؤدي الى وقوع حوادث بسيطة.
الى مصدر الإلهاء هذا الذي غالباً ما تردّ إليه أسباب الحوادث يضاف اليوم مصدر آخر هو التشتت الفكري الذي يعيشه معظم اللبنانيين الذين يقودون سياراتهم بلا تركيز نتيجة الضغط النفسي الذي يعانونه بسبب الأمور الحياتية الصعبة.
ولكن تبقى السرعة هي المسبب الأول للحوادث الخطرة أو المميتة، وحين تضاف إلى وضع الطرقات المتردي وغياب الصيانة والإنارة وحتى تصريف المياه عنها تصبح السيارات التي يعاني معظمها من ترهل في الصيانة توابيت متنقلة تعرّض أصحابها وركابها للموت في كل لحظة. وتتضاعف عوامل الخطر ليلاً بعد السهرات حين يكون سائق السيارة ولا سيما المنتمي الى فئة الشباب قد أسرف في الشرب فيصبح عاجزاً عن التحكم بسيارته ويتحول الى خطر داهم على نفسه وعلى الآخرين. وهنا لا بد من التحذير مراراً وتكراراً أن طرقات لبنان غير مؤهلة للسرعة وحين تتخطى السيارة سرعة معينة تصبح عرضة للحوادث مهما بلغت مهارة سائقها يؤكد رشيد.
لبنان بلا مرجعية للسير
كثيرة هي الأسباب التي تؤدي الى الحوادث ولكن من يستنتج العبر منها؟ أين التقارير السنوية أو الفصلية التي تحدد الأسباب وتعمل على معالجتها ومعالجة نقاط الضعف التي تؤدي إليها؟
الآن أكثر من أي وقت مضى تبدو المعالجات غائبة، فلا وزارة الأشغال والنقل ولا مجلس الإنماء والإعمار ولا البلديات قادرة على إجراء الصيانة الدنيا للطرقات ولا وزارة الطاقة قادرة على إنارتها. ومن جهتها تبدو غرفة التحكم المروري في غيبوبة عاجزة عن القيام بمهامها بعد أن كانت سابقاً مثالاً للإدارة الفاعلة الجيدة في مجالها، فلا الشارات الضوئية ولا اللوحات الكهربائية او الكاميرات تعمل ولا تقارير الحوادث تدرس وتشرّح لمعالجة الأسباب. ومثلها المعاينة الميكانيكية المجهولة المصير والغائبة عن تأدية دورها المحوري في الحفاظ على سلامة السيارات. حتى قوى الأمن غائبة عن الطرقات وقد حضرت منذ فترة لتسطير بعض محاضر الضبط دون أن يكون لذلك أي أثر ملموس على قمع المخالفات وتطبيق قانون السير ومراقبة وضع الآليات تجنباً لحصول الحوادث. وكأن لا مرجعية للسير في لبنان اليوم، والمواطنون متروكون فريسة للحوادث دون رقابة ذاتية ولا رقابة رسمية ودون غطاء التأمين الذي بات يغطي «من الجمل أذنه» كما يقال وفي ظل صعوبة بالغة في تأمين كلفة الاستشفاء في حال سقوط جرحى. وحدها الجمعيات المختصة مثل اليازا وسواها هي الصوت الصارخ في البرية ووحدهم خبراء السير ما زالوا يقدمون تقاريرهم لشركات التأمين وللمخافر أو المحاكم في حال وجود جرحى أو قتلى، أما المعالجات فغائبة بشكل تام.
فأيها اللبنانيون إنتبهوا من طرقات تتربص بكم، كونوا واعين حذرين لتحفظوا أرواحكم من الخطر… فلا مرجع رسمياً يحمل همكم ولا من ينتشلكم من المصيبة إذا وقعت…