أحمد الغز :
يواجه لبنان ازمة جفاف وتصحّر في منابع الكذب بسبب كثرة استخدامه في كافة أنماط الحياة، السياسية والمدنية والدينية والمهنية والاجتماعية، لأنّ الكذب هو الرابط الوحيد بين كل المكونات الوطنية اللبنانية. وهناك بحث حثيث عن مصادر جديدة للكذب لتأمين مستقبل الأجيال الصاعدة.
يشعر اللبنانيون بالندم الشديد بسبب إسرافهم باستهلاك الكذب حتى قارب على الانقراض. ومعظم اللبنانيون يحتاجون للكذب على مدار الدقائق والساعات من اجل التكيّف مع كذبة الحياة الوطنية الوهمية منذ عقود وسنوات. وهناك من يتحدث الان عن اهمية وجود استراتيجية وطنية للكذب اللبناني المستدام، بما هو ضرورة دائمة للحياة السياسية، بما يشبه الماء والهواء بالنسبة للحياة البشرية.
تسود حالة من القلق الشديد نتيجة النقص الكبير بمصادر الكذب، بعد ان اصبح الكذب ثقافة وهوية وطنية عميقة وعابرة للطوائف والمناطق، فالجميع يكذب على الجميع، الكبار يكذبون على الصغار والعكس ايضا. ونكذب عندما نبتسم وعندما نبكي وعندما نحلم، ونكذب في انتماءاتنا وصداقاتنا وخصوماتنا، ونكذب على أنفسنا وعلى الاشقاء والجيران وعلى الدول الكبرى والصغرى على حد سواء.
كيف سيكون لبنان بدون كذب، وهو من أدوات الانتاج العام في لبنان المُعجزة؟ وكذبة الدخل غير المنظور وغير المفهوم لدى معظم اللبنانيين، أفراد وجماعات وأحزاب وطوائف وطبقات، حيث يعيش معظمهم على الكذب وتزوير الحقائق والادعاء انّ تأجير الاوطان غير بيع الاوطان، وان لبنان للإيجار وليس للبيع، مع وجود عشرات عشرات الآلاف من الرواتب السياسية بدون انتاج. وحتى الاطفال يعرفون ان كل ما يؤجّر يباع.
لا نعرف اذا كان بالإمكان استيراد كذب من الخارج. ولا نعرف الدول التي لديها فائض للتصدير. ولا نعرف ايضا ما هي مواصفات الكذب الخارجي، وهل يتناسب مع مواصفات أسواق الكذب اللبنانية؟ وربما نحتاج الى خبراء دوليين متمرّسين بالكذب الانمائي على المجتمعات الفقيرة وإطعام شعوبها دراسات واوراق ومؤشرات وخبراء واهداف كاذبة ومؤتمرات ومصطلحات يتمّ تغييرها كل حين بما يتناسب مع ضرورات الكذب العالمي.
لا نستطيع استيراد المزيد من الكذب العربي او الكذب الحلال من دول الجوار، لانهم قد تبرعوا لنا بالكثير من الكذب بدءاً باحترام خصوصية لبنان الى تحرير فلسطين الى الحرية والوحدة والاخوة بالدِّين، والقومية والعلمانية والرجعية والتقدمية، والمذهبيات الاسلامية والمسيحية، والأقلية والأكثرية، والقدس يا مدينة الصلاة، وشلالات الدموع والدماء والثورات والمقاومات، وقمم الملوك والرؤساء وجامعات الدول ومجالس التعاون، والتجمعات والمبادرات وجبهات الصمود والتصدي والممانعات، وأوهام اتفاقات السلام.
عرِفَتْ اجيال لبنان الكثير من الكَذِب في ادارة الشأن الوطني العام، وبتناغم تامّ بين الكذب الحكومي والمؤسساتي، والكذب التشريعي والتمثيلي، والكذب الحزبي العقائدي والأيديولوجي، والكذب المدني والمسلح، والكذب الفكري والاكاديمي والثقافي، والكذب الأهلي، وآلاف آلاف الهيئات والجمعيات، وكذبة المستقلين، وكذبة الحريات الإعلامية، ولبنان كان ولا يزال يعيش منذ عقود وعقود طويلة تحت سلطات المنظمات المسلّحة الخارجية والمحلّية وجيوش الوصاية وجيش الاحتلال والحديث الدائم عن الاغتيالات وغلبة السلاح.
ويبقى السؤال: هل نستطيع الشفاء من الادمان على الكذب؟ لأننا قد لا نجد في الايام القادمة ما يكفينا جميعا من الكذب. وربما تنشب حرب أهلية من اجل السيطرة على ما تبقى من ثروة الكذب الوطني. وربما ننخرط اكثر في نزاعات الكذب والتحولات في المنطقة من اجل الحفاظ على ما تبقى من الكذب ثروة لبنان.