سليم نصار:
«في هذه المناسبة، لا يسعني إلا أن أوجه عبارات الثناء إلى دولة الرئيس تمام سلام على النجاح الذي حققه من خلال أدائه المتوازن بحيث أنه وفر الاستقرار في بلاد غير مستقرة.» هذا ما جاء في الكلمة التي ألقاها المؤرخ والمستشار السياسي الأستاذ سيسيل حوراني في حفلة التكريم التي أقامها على شرفه كارلوس إدة، وذلك لمناسبة بلوغه المئة سنة.
حدث هذا في عهد الرئيس ميشال سليمان، يوم اختير تمام صائب سلام لملء فراغ استمر أحد عشر شهراً. وعلق رئيس الحكومة تمام سلام على كلمة المحتفى به بالقول: «إن الثناء يجب أن يوجّه إلى المدرسة السياسية التي تعملت فيها أن لبنان لا يمكن أن يستقر إذا حوّلناه إلى لبنانَيْن… ولا يمكن أن يستمر إذا لم يتخلَّ مواطنوه عن ممارسة أساليب المناكفة والاستعداء.»
في المؤتمر الصحافي الذي عقده يوم الجمعة الأسبق رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، كرر القول إن لبنان لا يقوم إلا على التوازن كونه يمثل سبب وجوده. وأكد في كلمته أن خراب البلد يأتي من الخلل في التوازن، ومن ازدياد الأداء الطائفي. لذلك دعا إلى ضرورة استحداث حل يؤمن الاستقرار عبر قيام الدولة المدنية. ثم ذكّر الوزير باسيل الحضور بالتفاهم الذي أبرمه التيار مع «حزب الله» بهدف حماية لبنان. ولكنه صبَّ الملامة على الذين انتقدوا هذه المشاركة لأنها، في نظرهم، كانت تمثل إنشاء ثنائية مارونية – شيعية. ولقد دفعنا ثمن تلك الشراكة عشر سنوات من الظلم والمعاناة. ومع هذا كله، وصلنا اليوم إلى مرحلة أظهرت فيها الظروف أننا سنّة أكثر من السنّة عندما يتعرضون للإساءة… وأننا شيعة أكثر من الشيعة عند المسّ بهم. ونحن كمسيحيين ضد تغليب طائفة على أخرى!
بقي هذا الكلام مقبولاً لدى الرأي العام اللبناني حتى صباح الأحد الماضي، أي إلى حين فجَّر باسيل قنبلة صوتية مدوّية، أصابت رئيس مجلس النواب «الأستاذ» نبيه بري في يوم عيد ميلاده الثمانين! والثابت أن وزير الخارجية والمغتربين استسلم إلى موجة انفعال عندما تحدث أمام جمهور من قرية «محمرش» البترونية، عن مؤتمر الطاقة الاغترابية الذي تقرر عقده في أبيدجان. ووفق زعمه، فقد اتهم بري بأنه يقف وراء تعطيل المؤتمر بواسطة رئيس الجالية اللبنانية في أبيدجان نجيب زهرا، ورئيس المجلس القاري الإفريقي في الجامعة الثقافية اللبنانية عباس فواز. وكان الإثنان قد وجّها نداء إلى الرؤساء عون وبري والحريري يطلبان منهم التدخل لتأجيل انعقاد المؤتمر لأن الظروف غير مواتية.
وردّ وزير المال علي حسن الخليل على اتهامات الوزير باسيل قائلاً: سمعنا أن هناك محاربة من حركة «أمل» لمؤتمر يُعقد في الخارج. وأقول لهؤلاء إن لدينا الجرأة أن نعلن ذلك لو أننا حقاً أردنا القيام بهذا الدور. إذن، ليبحثوا عن المنطق الذي استفز المغتربين. جاءت هذه المقدمة الهادئة نسبياً قبل أن تصدر عن الوزير الخليل حلقات الردح والتجريح كان مطلعها: «قليل الأدب، وكلامه خطاب انحطاط. وإذا كان هناك مَنْ يسمع (يقصد الرئيس عون) فليسمع أن صهره المفضَّل قليل الأدب، ووضيع، وطائفي ينتمي إلى أقزام السياسة الذي يتصورون أنهم بالتطاول على القادة يحجزون موقعاً بينهم».
ولقد شكلت تلك الحملة السياسية إحراجاً لـ «حزب الله» الذي حاول الوقوف على الحياد في المعركة الانتخابية المقبلة، معلناً بلسان نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم أنه سيخوض الانتخابات مع حلفائه. وهذا يعني أن حزب رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر) سيكون في طليعة الحلفاء. وهذا ما اضطرّه لإعلان موقف منحاز إلى «أمل» الحركة التي وُلِد «حزب الله» من رحمها. وفي البيان الذي صدر عن الحزب جاء فيه: «نرفض رفضاً قاطعاً الكلام الذي تعرض بالإساءة إلى دولة رئيس مجلس النواب الأخ الأستاذ نبيه بري شكلاً ومضموناً. كما نرفض الإساءة إليه من أي طرف كان. ونحن نؤكد تقديرنا العالي واحترامنا الكبير لشخص ومقام دولة الرئيس، تماماً مثلما كان يعبّر عنه سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله في خطاباته ومواقفه». ومع أن البيان صدر باسم الحزب، إلا أن الإعلان عن موقف السيد حسن نصر الله من الأستاذ حمل الكثير من المعاني التي تؤكد أن نبيه بري هو «خط أحمر» بالنسبة إلى الحلفاء والأعداء معاً.
بعد امتناع الوزير باسيل عن الاعتذار العلني عن وصف رئيس المجلس النيابي بـ «البلطجي» المطلوب «تكسير رأسه»، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالمنافسة على نشر الإساءات إلى «الصهر» الذي تجرأ على المسّ بكرامة «الأستاذ». وقد تزامن تصعيد العنف مع حملة احتجاج نال منها الرئيس عون نصيباً كبيراً. كل هذا لأن الجمهور الشيعي الغاضب لم يصدق أن رئيس الجمهورية لا يستطيع فرض إرادته على صهره المدلل الذي نال بفضله حظوة غير مسبوقة من السلطة والمسؤولية. وقد احتج عدد من نواب «أمل» على الدور الاستثنائي الذي خصّ به القصر الجمهوري «الصهر المفضل»، لاعتقادهم بأنه يسيء إلى موقع الرئاسة، مثلما أساء «السلطان سليم» بتجاوزاته وارتكاباته إلى سمعة شقيقه الرئيس بشارة الخوري!
ومع هذا كله، فقد تجاوز الرئيس ميشال عون حدود هذه الأزمة الطارئة بإصدار بيان توقع أن يخفف حدة التوتر ويرضي الرئيس بري. و «اعتبر أن ما حصل، على الصعيدين السياسي والأمني، أساء إلى الجميع وأدى إلى تدني الخطاب السياسي إلى ما لا يليق باللبنانيين.»
ورأى الرئيس: «إن ما حصل على الأرض من خطأ كبير بُني على خطأ. لذلك فإني من موقعي الدستوري والأبوي أسامح جميع الذين تعرضوا لي ولعائلتي، وأتطلع إلى أن يتسامح أيضاً الذين أساؤوا إلى بعضهم بعضاً، لأن الوطن أكبر من الجميع.»
ولدى خروج الوزير السابق جان عبيد من لقاء مصارحة مع الرئيس عون، وصفه بأنه قدّم تضحيات جمّة في سبيل الكثير من الناس، وعلى هؤلاء أن يساعدوه على العودة عن أخطائهم.
ولكن باسيل لم يعتذر من بري، واكتفى بالقول إن الوصف الذي أطلقه على رئيس المجلس جاء نتيجة المناخ السائد في ذلك اللقاء الذي أقيم في بلدة بترونية. وتعليقاً على هذا الإيضاح، قال وزير المالية علي حسن الخليل، إن العذر الذي قدّمه أقبح من الذنب الذي اقترفه.
ويرى محازبو الوزير باسيل أن تمنعه عن الاعتذار كان محسوباً بدقة من أجل تحقيق أهداف عدة، أولاً – ازدياد شعبيته لدى المسيحيين، ولدى الناخبين في منطقة خذلته خلال دورتين. ثانياً – استغلال حملته ضد بري بغرض رفع نسبة المقترعين للوائح «التيار الوطني الحر» بحجة العمل على استعادة صلاحيات الرئيس الذي جرّده اتفاق الطائف منها. ثالثاً – ربما راهن على تأجيل موعد الانتخاب إلى ما بعد 6 أيار (مايو) المقبل، بحيث يسعفه الوقت للانضمام إلى لائحة قوية. والسبب أنه يريد الفوز بنسبة عالية تدعم حظّه لرئاسة الجمهورية من زاوية دمج أقضية الشمال حيث يتنافس فيها خمسة مرشحين لرئاسة الجمهورية، هم: طوني فرنجية وسمير جعجع وبطرس حرب وجان عبيد وجبران باسيل.
قبل أن يحزم وزير الخارجية أمره بالتوجه الى أبيدجان، مع علمه أن غرفة التجارة التي تعهدت باستضافته مع وفد مؤلف من 15 شخصاً، طلبت منه التأجيل إلى وقت ملائم… أي قبل اتخاذ قراره النهائي، فاجأته تهديدات إسرائيل، مثلما فاجأت الحكومة والمواطنين معاً.
والسبب أن وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان اعتبر التنقيب عن حقل الغاز في البلوك الرقم 9، داخل المياه الإقليمية اللبنانية، عملاً استفزازياً.
واللافت أن تحذير ليبرمان جاء منسجماً مع تهديد رئيسه بنيامين نتانياهو الذي زار موسكو مطلع الأسبوع بهدف حضّ فلاديمير بوتين على التدخل مع إيران. وكتب العميد رونين مانليس، الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، أن «حزب الله» أقام في جنوب لبنان مصنعاً لإنتاج صواريخ مطورة، الأمر الذي يعتبره دعوة سافرة إلى الحرب!
ورأى الرئيس عون في التهديدين انتهاكاً إسرائيلياً لسيادة لبنان، مثلما رأى رئيس المجلس بري ورئيس الحكومة سعد الحريري فيهما تجاوزاً لكل الأعراف والمواثيق الدولية.
وتعتبر الصحف الإوروبية أن تصرف نتانياهو كان مفتعلاً لتغطية الفضيحة التي ارتكبتها زوجته وإقلاق المجتمع الإسرائيلي. بينما وجد ليبرمان في عملية التنقيب فرصة مواتية لدفع لبنان إلى فتح حوار مع إسرائيل يكون بمثابة فاتحة لمحادثات غير قابلة للتحقيق!
* كاتب وصحافي لبناني.