أكد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إصراره على ترسيخ انتماء المتتشرين اللبنانيين في العالم إلى لبنان عبر إقرار قانون استعادة الجنسية، الذي دخل حيز التنفيذ منذ أكثر من عام، معيداً الحق لمن فقده.
وإذ رأى أن المغتربين هم فخر لوطنهم، ليس فقط بإبداعاتهم وسيرتهم وإنجازاتهم على مستوى العالم، بل أيضاً بكونهم نموذجاً للتعايش بين الأمم، اعتبر أن ميزتهم هي أنهم أبناءُ مجتمع تعدّدي تعلّم كيف يعيش اختلافه وكيف يحترم حقّ الآخر بالوجود وبالانتماء وبالتعبير.
وشدِّد الرئيس عون على أنه إزاء التطرف السائد الذي يولّد الإرهاب، يأتي دور لبنان في النموذج الذي يمكن أن يقدّمه للعالم، خصوصاً بعد التجارب التي سبق أن عاشها وعلّمته كيف يعيش تعدّديته، وأنّ الاختلاف حق، والحوار وحده هو طريق الخلاص والسلام.
ولفت إلى إن لبنان يكافح اليوم للنهوض من أزمات مزمنة متراكمة خصوصاً في الميدان الاقتصادي، ولكنه يسلك درب التعافي، مشيراً إلى أن كل جهد من المنتشرين اللبنانيين، “سيساعده دون شك على المضي قدماً في هذه الدرب”.
كلام رئيس الجمهورية جاء خلال افتتاحه قبل ظهر اليوم “مؤتمر الطاقة الاغترابية” الذي انعقد في مركز البيال في فرن الشباك.
وفي ما يلي، نص كلمة الرئيس عون:
“أيها الحضور الكرام،
أيها اللبنانيون القادمون من دنيا الانتشار،
صار تقليداً أن تلتقوا على أرض لبنان في كل عام، وهو تقليد جميل لأنه يجمعكم من جميع أنحاء العالم ويأتي بكم الى الوطن الأم. تلتقون، تتعارفون، تنشطون معاً، فتقصر المسافات.
أنتم فخر لوطنكم، ليس فقط بإبداعاتكم وسيرتكم وإنجازاتكم على مستوى العالم، بل أيضاً بكونكم نموذجاً للتعايش بين الأمم؛
اندمجتم حيثما حللتم، واستطعتم التأقلم مع عادات وشعوب ولغات مختلفة عنكم. تعايشتم مع كل الحضارات والثقافات والأديان، فلم تشكّلوا جسماً غريباً، رافضاً ومرفوضاً، في المجتمعات التي استقبلتكم، بل على العكس تعلّمتم وعملتم، وطوّرتم الشعور الإنساني بين حضارات مختلفة.
ميزتكم أنكم أبناء شعب يحمل في جيناته عصارة حضارات تعاقبت على أرضه فأغنت ثقافته وجعلته منفتحاً،
ميزتكم أنكم أبناء وطن عاش تجربة قاسية عندما قرّر عدد من أبنائه سلوك درب التعصب ورفض الآخر فدفعوا أغلى الأثمان ولكنهم تعلّموا الدرس جيداً،
ميزتكم أنكم أبناءُ مجتمع تعدّدي تعلّم كيف يعيش اختلافه وكيف يحترم حقّ الآخر بالوجود وبالانتماء وبالتعبير.
فعالمنا اليوم تملؤه العصبيات الإتنية والعرقية والدينية، عالم سقط فيه الإنسان في هوّة اختلافه عن أخيه الإنسان، وجعل من انتماءاته عدوّاً لإنسانيته، فعمّته الفوضى، وانتشرت فيه الحروب والمشاهد القاسية.
والتطرف السائد الذي يولّد الإرهاب هو عدوى فكرية، سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي انتشارها، أشعلت الحروب الداخلية والحروب المضادة في محاولة للقضاء عليها، ولكن الفكر لا يُحارَب إلا بالفكر؛ فالسلاح يقتل إنساناً، يدمّر منزلاً، يمحو مدناً، ولكنه لا يغيّر فكرةً، بل على العكس يرسّخها ويزيدها تطرفاً وتعصّباً.
وهنا يأتي دور لبنان في هذا العالم، لبنان المحدود والمقيّد بالجغرافيا، لبنان الذي لا تتسع مساحته لكتابة اسمه على خريطة العالم، ولكن انتشاره يغطي الكرة الأرضية ويبلغ أضعاف المقيمين فيه.
لبنان هذا دوره في رسالته، وفي النموذج الذي يمكن أن يقدّمه، خصوصاً بعد التجارب التي سبق أن عاشها وعلّمته الكثير من العبر؛ علّمته كيف يعيش تعدّديته، علّمته أنّ الاختلاف حق، وليس سبباً للخلاف، وأنّ الكراهية والعصبيات والحروب لا يمكن أن تؤدّي إلا إلى الخراب والانهيار… علّمته أن الحوار وحده هو طريق الخلاص، طريق السلام، لعالم حدوده الإنسان.
والتزاماً بهذا الدور أطلقت مبادرة في الأمم المتحدة بترشيح لبنان ليكون مركزاً دائماً للحوار بين مختلف الحضارات والديانات والإتنيات الى جانب إنشاء “أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار”.
فالتلاقي والحوار وتقريب الناس وخصوصاً الشباب من بعضهم البعض وتعريفهم بالحضارات الأخرى، تسهّل اندماجهم الصحيح في مسيرة تقدّم الحضارة الانسانية وتحصّن من أي محاولات لاستمالتهم. وهي الوسيلة الفضلى للقضاء على الإرهاب الذي ما زال يشكل خطراً على العالم وعلى الأجيال المقبلة.
وهذا ليس فقط دور لبنان بل أيضًا دوركم، فعليكم أن تكونوا رسل التلاقي والحوار، وأن تبقوا النموذج كما أنتم اليوم، وأيضاً أن تدعموا ترشيح لبنان حيث أنتم فاعلون، خصوصاً وأن المبادرة قد لاقت ترحيباً كبيراً من العديد من الدول والهيئات الدولية التي أعربت عن استعدادها لدعمها ومواكبتها.
أيها الأحبة،
أنتم اليوم تتوزعون على كل دول العالم ولكنكم أيضاً تتوزعون على كل عائلات لبنان؛ قليلة هي البيوت اللبنانية التي لم تعش غصّة الاغتراب، وقليلة ايضاً هي البيوت اللبنانية التي لا تتلقى يد العون من الاغتراب؛ فأنتم دوماً الى جانب عائلاتكم ومجتمعكم ووطنكم، خصوصاً عند الشدائد.
ولكن على وطنكم الأم أيضاً أن يكون إلى جانبكم، أن يبني جسور التواصل والتبادل بينكم وبين أبنائه المقيمين، وأن يجعلكم تشعرون بقوة الجذور والانتماء إلى هوية إنسانية، وأرض، وحضارة، وتراث.
من هنا، كان إصرارنا الدائم على ترسيخ انتمائكم إلى لبنان عبر إقرار قانون استعادة الجنسية، الذي دخل حيز التنفيذ منذ أكثر من عام، معيداً الحق لمن فقده. وقد صدرت عشرات المراسيم التطبيقية لهذا القانون، استفاد منها أشخاص بينكم، فحملوا هوية أرضهم من جديد.
ولا بد من التذكير أيضاً في هذا السياق، بأنه للمرة الأولى في تاريخ الحياة الديمقراطية والبرلمانية في لبنان، شارك المنتشرون اللبنانيون في جميع أقطار العالم، ومن البلدان التي يعيشون فيها، في الانتخابات النيابية التي جرت العام الماضي.
ولا شك أن هذه الخطوة، ستفتح الأفق واسعاً أمام مشاركة فاعلة للمنتشرين اللبنانيين في الخارج، في تقرير مصير وطنهم، وخياراته السياسية، عبر تجديد الحياة الديمقراطية فيه.
إن لبنان يكافح اليوم للنهوض من أزمات مزمنة متراكمة خصوصاً في الميدان الاقتصادي، ولكنه يسلك درب التعافي، وكل جهد منكم سيساعده دون شك على المضي قدماً في هذه الدرب.
فتذكروا، أيها الأبناء الأحباء، أن لكم هنا أرضاً، ولكم أيضاً إخوة ما زالوا يبنون عليها ويكافحون من أجلها ويشقّون الصخر ليزرعوها…
وتذكروا أيضاً أن مجيئكم الى لبنان يشبه العيد، يحمل الفرح والبهجة والأمل لعائلاتكم، لمجتمعكم، ولوطنكم، فلا تحرموهم منه.
عشتم،
عاش لبنان”.