تتزايد جرائم القتل في لبنان، وباتت تثير قلق الناس وانفعالاتهم الى درجة تصاعد موجة المطالبة بتنفيذ أحكام الإعدام لردع المجرمين، الأخطر هو تبنّي مسؤولين في «الدولة اللبنانيّة» هذه الطروحات، (تصريح وزير الداخلية نهاد المشنوق نموذجاً) بدلاً من العمل على سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة وقانونيّة تعالج أسباب الجريمة، وتضع حداً للسلاح المتفلّت والمحسوبيات والانتقائية في عمل القضاء
10 جرائم قتل ارتكبت في لبنان منذ بداية حزيران حتى تاريخ أمس. توزّعت هذه الجرائم بين مختلف المناطق اللبنانيّة. وبنتيجة التحقيقات الأوليّة التي توصّلت إليها القوى الأمنيّة في بعض هذه الجرائم، يتبيّن أن المشتبه فيهم هم لبنانيون، ما يسقط حُكماً فرضيّة «تبعات النزوح السوري على الوضع الأمني»، ومحاولات إسقاط لوثة ارتكابها على من هم في الموقع الأضعف دائماً، علماً بأن هذا العدد لا يُمثّل سوى الجرائم التي صدرت بيانات حولها من شعبة العلاقات العامّة في قوى الأمن الداخلي وتلك التي تناولها الإعلام.
أمّا اللافت، فهو ترافق هذه الجرائم مع انطلاق دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لتطبيق عقوبة الإعدام، تلقفتها تصريحات سياسيّة تدعو إلى إعادة تفعيل هذه العقوبة المجمّدة منذ عام 2004، وأولها تصريح وزير الداخليّة والبلديات نهاد المشنوق الذي، بدلاً من السعي إلى مكافحة الجريمة ومعالجة مسبّباتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والقانونيّة والنفسيّة والتخفيف من نسبتها، ركب موجة الشعبويّة والتنصّل من المسؤوليّات، مطالباً بـ«إعادة العمل بقانون الإعدام لأن الأحكام القضائيّة لا تردع المجرمين».
لبنان والجريمة!
يحتلّ لبنان المرتبة السابعة عربياً والمرتبة 39 عالمياً، في مؤشّر الجريمة العالمي لعام 2016 الذي ضمّ 117 دولة، وصنّف من ضمن الدول التي تسجّل معدّل جريمة معتدلاً. أمّا بحسب الإحصاءات الصادرة عن قوى الأمن الداخلي، فقد سجّل لبنان في عام 2014 نحو 315 حادثة قتل، انخفضت إلى نحو 233 حالة في عام 2015، ومن ثمّ إلى 149 حالة في عام 2016. أمّا منذ بداية العام الجاري حتى نهاية أيار الماضي، فقد سجّل لبنان نحو 90 حادثة قتل. يتوقّع الباحث محمد شمس الدين في «الدوليّة للمعلومات» أن «يتخطّى العدد في نهاية هذا العام المئتَي حالة إذا ما بقيت وتيرة الجرائم على ما عليه اليوم»، وفي تحليله لهذه الأرقام، يربط شمس الدين بينها وبين «انتشار السلاح الرسميّ وغير الرسميّ، والمرخّص وغير المرخّص، في ظلّ غياب أي إحصاء رسميّ عن عدد رخص حمل السلاح الممنوحة من قبل الدولة، والتي تقدّر بنحو 30 ألف رخصة، انخفضت خلال الفترة السابقة بمعدّل 40%، (ألغى وزير الدفاع يعقوب الصرّاف أمس كل الرخص الصادرة في عام 2016)، لكنّه يبقى رقماً كبيراً إذا أضفنا إليه الرقم غير المعلوم للسلاح غير المرخّص، ما يؤشر إلى سهولة الحصول على السلاح»، ويضاف إلى ذلك بحسب شمس الدين «السلاح الرسمي الذي تحمله القوى الأمنيّة البالغ عديدها نحو 120 ألف عنصر، وكان وراء الكثير من الجرائم التي ارتكبت أيضاً».
سجّل لبنان 90 حادثة قتل في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري الإعدام: تنصّل الدولة من مسؤولياتها!
إن المطالبة الشعبويّة بالإعدام كعامل ردع عن ارتكاب الجريمة «أمر مفهوم» بحسب مؤسّسة الحملة الوطنيّة لإلغاء عقوبة الإعدام، الدكتورة أوغاريت يونان، باعتبار أن «كل البلدان التي تشهد جرائم تهزّ الرأي العام، تعلو فيها مطالبات بتعليق المشانق نتيجة الغضب الذي يتملّك الناس، ولأن التقاليد المجتمعيّة تحبّذ القتل والإعدام، وهو ما ينطبق على لبنان بشكل ملحوظ، لأن الناس لا يملكون حلاً ثانياً أو ربّما لا يرون أمامهم حلولاً في الأفق غير الردّ على القتل بالقتل. وهناك مسؤولون يلبّون ردود الفعل العاطفيّة، وربّما يؤيدون هذه الطروحات، فيعيدون طرحها، كون القتل والعنف هو الحلّ الأسرع لامتصاص الغضب، وهو ما يؤشّر إلى تنصّل ثلاثي من مسؤولياتهم سواء في معالجة مسبّبات الجرائم، وفي إعطاء أهل الضحية حقوقها، وفي إعادة تأهيل القاتل».
على صعيد الأبحاث، لا يوجد دليل على العلاقة بين تطبيق عقوبة الإعدام وتخفيف نسبة الجريمة، وهو ما تشير إليه النماذج العالميّة، ففي فرنسا انخفضت نسبة الجريمة بعد عام واحد من إلغاء عقوبة الإعدام، فيما ترتفع هذه النسبة باطراد في تكساس التي تعدُّ من الولايات الأميركيّة التي تنفّذ هذه العقوبة. وهذا ما تؤكّده أيضاً دراسة أعدّتها عدد من علماء النفس والاجتماع والجناية بتمويل من الأمم المتحدّة شملت نحو 110 دول وأشاروا في خلاصتها إلى «أن الجريمة تزداد كلّما طبّقت السلطة الحاكمة أعمال عنف أبرزها الإعدام»، وفي دراسة ثانية، شملت 50 دولة شهدت حروباً نصفها طبّق عقوبة الإعدام بحجّة تخويف الناس وردعهم عن ارتكاب الجريمة، كما في لبنان الذي نفّذ بين عامي 1994 و1998 نحو 14 حكماً بالإعدام، والنصف الآخر امتنع عن ذلك، تبيّن أن «نسبة الجريمة ارتفعت في الدول الأولى وانخفضت في الدول الثانية.
لماذا نقتل؟
ركّزت الأمم المتحدة على أربعة أسباب تؤدّي إلى ارتكاب الجريمة وهي: 1- الفقر الذي يؤلّد يأساً وغضباً. 2- مناخات الحرب والتسليح والمخدّرات والفلتان. 3- مناخات الطائفيّة والعنصريّة التي تؤجج النفور. 4- التقاليد المشجّعة على الثأر والعنف.
«لبنان يعيش في حالة حرب حتى بعد ركود صوت المدافع، ويعاني من الفقر، وتتوافر فيه مناخات الطائفيّة والعنصريّة، ومحكوم بسلّم من القيم الدينيّة والاجتماعيّة التي تبرّر العنف والثأر» بحسب يونان، وهو ما يؤدّي حكماً إلى وجود قابلية لارتكاب الجرائم فيه، لذلك من الواجب «الانتفاض على مسبّبات الجريمة، لا تكريس العنف، واللجوء إلى حلول ذكيّة تؤمّن السلام الهادئ وحقوق الناس».
ويشير أستاذ علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانيّة الدكتور نزار أبو جودة إلى أن «غياب الدولة والقانون والعقاب له الدور الأساسي في ارتفاع نسبة الجريمة، بالتلازم مع النظام الطائفي الفاسد الذي يقف حجر عثرة أمام العقاب والمساواة في العقاب، بحكم المحسوبيات، وفقدان الثقة بالدولة وأجهزتها الأمنيّة والقضائيّة. فنحن نعيش في دولة مزارع وطوائف تبعدنا عن الدولة المدنيّة التي تضع الكلّ تحت سقف القانون». ويتابع أبو جودة «هناك شقان يؤديان إلى ارتكاب الجريمة، أولهما نفسي يولّد يأساً وإحباطاً، ويُعزّز غالباً بتفشي المخدّرات ويؤدّي إلى ارتكاب جرائم، وشق اجتماعي واقتصادي وسياسي، يكرّس فقراً وظلماً ولامساواة وشعوراً جماعياً بالحرمان الحقوقي، ويشجّع على حمل السلاح وثقافة الثأر، ولا يخلق فرص أمل بالمستقبل، وفي ظلّ غياب أي استراتيجيّة لبناء دولة القانون والمواطن. فتتكاثر عندها ردّات الفعل الأوتوماتيكيّة والآنيّة والعمياء، علماً بأن القتل لا يُلغى بقتل القاتل الذي يولّد خوفاً مرحلياً وغضباً ثأرياً على المدى الطويل، وإنّما بقتل مسبّباته». ويضاف إلى هذين الشقين «عرض صور العنف والذبح المنتشرة إقليمياً التي ساهمت في ترويج مشاهد القتل وخلق إرهاق عاطفي لدى المتلقي، وجعلها أمراً عادياً ومسموحاً. إضافة إلى مساهمة الإعلام في الترويج لقواعد سلوكيّة وتفكير تشجّع على الجريمة من خلال أعمال وأفلام تصوّر القتل وتجارة المخدّرات بصور بطوليّة».
(الاخبار)