إلّا أنّ ما جرى خلال الأشهر الستة من عمر الولاية الرئاسية وصولاً إلى الأزمة الانتخابية الراهنة ثبَّتَ تلك المقولة وبَلع المتّهِمون (بكسر الهاء) ألسنتهم ، وأمّا المتهَمون (بفتح الهاء) فقلِقون أو شامتون أو صامتون وليس في يدهم أن يفعلوا شيئاً سوى التذكير من حين إلى آخر: «نشهد أنّنا كنّا قد بلّغنا… لم يعد ينفع أيّ كلام».
كان يوم الانتخاب محطّة فاصلة بين حقبتَين، إنتهت الأولى لحظة الانتخاب، لتبدأ حقبة جديدة بدأ فيها البلد يقرأ في كتاب جديد تتوالى فصوله بشكل يومي. فعلى مستوى السياسة، العلاقات مأزومة، خصوصاً بين من كانوا في الصفّ الواحد، وبَلغ الانقسام حدّاً لم يسبق له مثيل. وصار أقوى من أية علاجات، وأمّا من كانوا في صفّ الحلفاء فيبدو أنّ العلاقات في ما بينهم، تحتضر، وثمَّة أطراف تُمهّد بأدائها لمراسم دفنِ هذه العلاقات.
لنستعرضْ مشهد ما بعد الانتخاب:
• زادت العلاقة تأزّماً إلى حدِّ الكسر بين عون ومن خلفَه «التيار الوطني الحر»، وبين الرئيس نبيه بري ومعه حركة «أمل». وأولى الضحايا غير المعلنة – حتى الآن – هي «ورقة التفاهم»، التي كان يَجري تحضيرها بين «التيار» و«أمل»، وقطَعت أشواطاً وكانت على شفير الإعلان.
• مع وليد جنبلاط، في الأساس لم يكن
لـ«الكيميا» وجود بين عون و«التيار» من جهة، وبين رئيس التقدمي وحزبه من جهة ثانية، وفي الزمن الانتخابي الحالي والصيَغ التي طرَحها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل تَكرَّس الافتراق بينهما. وصارا أشبَه بخطّين متوازيَين ومتواجهين لا يلتقيان لا الآن ولا في أيّ وقت.
• مع القوى السياسية الحليفة الحالية والسابقة لرئيس الجمهورية، (التي كانت منضوية في مجموعة «8 آذار»)؛ قطيعةٌ واشتباك مفتوح مع سليمان فرنجية، وأمّا مع سائر الآخرين فبرودة وجَفاء، وأسئلة قلقة من قبَل هؤلاء الآخرين حول المستقبل الآتي وماذا يُخبّئ صندوق المفاجآت؟
• مع القوى المسيحية الأخرى كلّها؛ الحزبية وغير الحزبية (غير «القوات اللبنانية») نُفورٌ وافتراق تزيد هوَّتُه اتّساعاً وعمقاً يوماً بعد يوم جرّاء ما يسمّيها بعض هذه القوى «النظرة الاستعلائية» التي تمارَس عليها، والتعاطي معها وكأنّها قوى ثانوية وهامشية وكأن لا وجود لها ولا حضور ولا تاريخ. ويُعبَّر عن هذا الاستعلاء بصيغ وتقسيمات انتخابية شكلُها التمثيل العادل والشامل لكلّ المسيحيين وأمّا جوهرُها فهو الإقصاء والتحجيم والإلغاء!
• أمّا مع «حزب الله» فيبدو أنّ العلاقة ملبَّدة، وبدأت تضربها رياحٌ صفراء. وبالتأكيد أنّ هذه المسألة تُسعِد قلوبَ كثيرين وخصوصا الحلفاء الجُدد لرئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحر».
حتى الآن يبدو أنّ هناك حرصاً من الطرفين على تقديمِ العلاقة بينهما بأنّها مازالت في ذروة صلابتِها. ولكن هذا من فوق، إذ يبدو على سطحها صحوٌ، ولا غيوم ولا أمطار سياسية وغير سياسية. وأمّا تحت السطح فبرقٌ ورعدٌ وأمطار وهمسٌ وكلامٌ كبير يوشِك أن يطفوَ على السطح.
قيل قبلَ عاصفة الملف الانتخابي إنّ التفاهم بين «حزب الله» و»التيار» أقوى من كلّ العواصف، لكنّ العاصفة الانتخابية هزَّته، وظهَّرت منطقَين انتخابيَين متناقضَين.
ولعلّ أهمّ التعبيرات عن ذلك جاءت:
* أولاً، في الخطاب الأخير لأمين عام «حزب الله» السيّد حسن نصرالله ودعوته إلى التوافق والتسوية وعدم الوقوع في فخّ التصويت بما له من تداعيات وسلبيات، وأهمّ من كلّ ذلك تجنّبُ السقوط في الفراغ القاتل.
* ثانياً، في الردّ المباشر من رئيس الجمهورية على السيّد نصرالله بتأكيده على الاحتكام للمادة 65 من الدستور، بما يعني طرح الملفّ الانتخابي على التصويت في مجلس الوزراء!
* ثالثاً، في حال الإرباك والتخبّط التي اجتاحت جمهور «حزب الله» وجمهور «التيار الحر»:
¶ جمهور «حزب الله» معبَّأ، مذهول من أداء «الحليف»، فمنطقُ التحريض والشحن الذي اعتُمد في الآونة الأخيرة فعلَ فِعله في هذا الجمهور، الذي بات يخشى من أن تنحدر الأمور إلى الأسوأ، وبأكلاف كبيرة.
وعلى مقربةٍ من هذا الجمهور «شامِتون» يلاحِقون الحزب بأسئلة قاسية: ماذا فعلتم؟ قدّمتم… وماذا أخذتم؟ ولا يتورّع هؤلاء «الشامتون» عن التوجّه إلى الحزب: «حذّرناكم فما سمعتم… أنتم السبب وأنتم تتحمّلون مسؤولية كلّ هذا الذي حصَل أو الذي سيحصل… كان هدفكم فقط أن توصِلوا عون إلى الرئاسة، فها هو قد وصَل… فما الذي حصَل»؟
¶ جمهور التيار، في غالبيته مع توجّهِ رئيس الجمهورية، بات ينظر نظرةَ شكّ إلى «الحليف»، ويَستغرب «كيف أنّ «حزب الله» يُماشي الآخرين ( في الملف الانتخابي) ويحاول الضغط على «فخامة الرئيس». ممنوع حتى التفكير بالضغط على «فخامة الرئيس»، هذا ليس مسموحاً ولا مقبولاً أبداً… والرئيس أصلاً لا يَخضع لأيّ ضغط».
ويذهب البعض إلى الأعلى أكثر: «علاقتُنا بالحزب هي أساساً علاقة متوازنة، تحالَفنا، لا ننفي أنّه قدّم لنا، ونحن أيضاً قدّمنا له ربّما أكثرَ ممّا قدّم لنا» ويَستحضر هؤلاء بعضاً من الأمثلة، وآخرُها التي ساقها رئيس «التيار» جبران باسيل: «أعطيناهم غطاءً مسيحياً كاملاً، وَقفنا مع «حزب الله» بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكذلك في حرب تمّوز 2006»!
وفي التيار أيضاً كلامٌ آخر وأصوات معترضة وهمسٌ وتحفُّظ على أداء «القيادة». وأسئلة من نوع «إلى أين سنصل بعد؟ هل هذا الأداء يحمي الرئاسة والتيار والمسيحيّين؟ كيف سنُكمّل في علاقات مكسورة مع غالبية القوى السياسية؟ هل نستطيع أن نكون لوحدنا؟ ماذا لو انكسرَت علاقتنا مع الشيعة، وهي مكسورة أصلاً مع الدروز، وليست حميمة مع السنّة، بل نَعرف حدودها وأسبابَها ودوافعها، فماذا نحقّق في هذه الحالة؟
يَختزن أصحاب هذا الكلام ما هو أكبر من عَتب على «حزب الله»: كلّ هذا الذي يحصل من عندنا (لناحية الأداء والموقف من قانون الانتخاب) هو نتيجة «الدَلع» الذي مارَسه «حزب الله» حيال «أحدهم»، وها هو الحزب يحصد من هذا الـ«أحدهم» نتيجة ما زرَعه فيه، لطالما نصَحنا ولكن لم يَسمعوا منّا. «حزب الله» هو وحده الآن المسؤول عن إيجاد الحلّ، ولا نعرف كيف، والكرة في يده»؟
أكثرُ ما يُقلق هؤلاء هو «أن نصل إلى وقتٍ نصطدم فيه بحقيقة أنّنا لم نستطع أن نحميَ الإنجاز الذي حقّقناه، وأننا بدل أن نحميَه أخذناه بأدائنا طوعاً وأسقطناه وأسقطنا العهد وكلَّ شيء في الهاوية، فأيّ مستقبل لنا بعد ذلك، وأيّ مستقبل للتيار وأيّ مستقبل للمسيحيين»؟
وفي بعض الزوايا العميقة لجمهورَي التيار و»حزب الله» تُقرأ رسالةٌ إلى رئيس الجمهورية مفادُها: «بيدِك وحدك أن تُنقذ «التفاهم» الذي اهتزّ، وأن تُنقذ الاستحقاق النيابي، وأن تُنقذ العهد، وأن تنقذ البلد وأن تُنقذ التيار».
لكن ماذا على الأرض؟
لا أحد من القوى السياسية، على اختلافها، قادرٌ على رسمِ صورةٍ لِما ستؤول إليه الأمور، ولِما سيكون عليه الحال بعد 20 حزيران. وأمّا صورة المواقف والتوجّهات فهي على حالها، وبَلغت ذروةَ الوضوح، وكذلك ذروة الاستقطاب الجماهيري. وبناءً على هذه الصورة يرى سياسيّ بارز أنّ من الصعب افتراض أنّ الأمور قد تعود إلى «التقليع» من جديد في اتّجاه توافقٍ على قانون أو غير ذلك.
وتِبعاً لذلك فإنّ احتمال أن يعود رئيس الجمهورية إلى تبنّي قانون على أساس النسبية في دوائر وسطى أو موسّعة، هو احتمال ممكن لكنّه ضعيف. كما أنّ تراجُع رئيس الجمهورية عن مواقف معيّنة اتّخذها، صار احتمالاً ضعيفاً جداً بعد كلام السيّد حسن نصرالله، لأنّ هذا التراجع مكلِف سياسياً ومعنوياً.
في أيّ حال، يضيف السياسيّ المذكور، كنّا حتى الأمس القريب نحافظ على شيء مِن أملِ التفاهم أو التوافق والالتقاء، ولكنّ كلّ الآمال تَحطّمت، وصِرنا نُحضّر أنفسَنا لمرحلة ما بعد هذا التحطّم.