رضوان السيد :
ليس غريباً أن يذكر ولي العهد السعودي الإسلام المعتدل والمنفتح، ضمن كلامه على الخطة الهائلة «2030» للتغيير والتحويل الاقتصادي. فدول الحكم الصالح هي التي تبني مجتمعاتها على أساس الإقدار الاقتصادي والاجتماعي، بحيث تكون فئاتها المدنية مهيأةً وقادرةً على إقامة حكومات المشاركة، الواعية لقوميتها ودينها، والصلبة في الدفاع عنهما. والصلابة في الوعي والمسار هما أساس المناعة في وجه التطرف في الدين والسياسة من جهة، وفي وجه الاستتباع للخارج؛ إذ لماذا يندفع الفتيان الفقراء باتجاه العنف من أجل زعم إنتاج سلطة إسلامية وهمية (مثل «داعش» و«القاعدة») تكون أفضل من السلطات القائمة؟ يقومُ بذلك بعضُ الآيديولوجيين، كُتَّاباً ودُعاةً وأصحاب مصالح خفية، ويسير في ركابهم فتيانٌ فقراء أو من أُسَرٍ محطمة لا عمل لديهم ولا معنى للحياة! وإذا تأكد لنا أنّ الآيديولوجيين ومساعديهم، بل والجمهور المتهافت على الانضمام، لا يزيدون على الواحد أو الاثنين في المائة في كل مجتمعٍ مسلم، لكنهم يستطيعون نشر الاضطراب والقلق والتعاسة والاستنزاف، فإنّ نظاماً للحكم الصالح في الاقتصاد والاجتماع وإدارة الشأن العام كفيلٌ بفتح الآفاق على مستقبل قريبٍ وواعدٍ، تنصرفُ همم الشبان لإحقاقه والإفادة منه في إعادة بناء حياتهم، بل وعقولهم وتصرفاتهم وفهمهم للدين ولطرائق العيش بالداخل الاجتماعي، ومع العالم!
إنّ ما نقوله عن ارتباط التغيير الاقتصادي والسياسي بالاعتدال في الدين، ليس تقديراً اعتبارياً أو نظرياً. ولننظر ما حصل في السنوات الأخيرة في كلٍ من سوريا والعراق ولبنان… بل واليمن، وكله علتُهُ الافتقار إلى رشاد الحكم، واستغلالية الاقتصاد، وفداحة الفقر والعوز، وفساد إدارات الدول أو الغلبة عليها أو الأمرين معاً.
في لبنان، وفي ذكرى مرور عام على انتخاب رئيس الجمهورية الجديد، تحدث الرئيس إلى القنوات الفضائية تحت عنوان: «سنة في عمر وطن»، وليس في عمر العهد مثلاً، باعتباره زعيماً تاريخياً. وهذا أمرٌ لا بأس به لو أنّ فخامة الرئيس اعتبر نفسه مسؤولاً أو المسؤول الأول. لقد ذهب إلى أن الخراب كان عاماً وشاملاً، ولا بد من إعادة البناء، كأنما لم يكن هناك شيءٌ قبله. لكنه عندما وصل إلى مسألة السلاح غير الشرعي للحزب، ومسألة النأي بالنفس عن الأزمة والحرب في سوريا، وضع نفسه إلى جانب الحزب، عندما ذهب إلى أن النأي بالنفس لا يتعارض مع تدخل الحزب في الأزمة السورية، كما قال إن سلاح الحزب باقٍ إلى حين إنهاء أزمة الشرق الأوسط! وهذا اصطفافٌ إلى جانب الحزب والمحور الإيراني، باعتبار أن هناك قلة عربية يستتر بها لبنان مع إيران! فكيف سيتقبل جمهور الفقراء وغير الفقراء هذا الكلام من رئيس البلاد، الذي ينحاز لصالح فريق، وينسب حتى الفشل الاقتصادي إلى الفرقاء الآخرين. هذه ليست سلطةً للحكم الصالح، همّها حُسْن إدارة الشأن العام، لاجتذاب الشباب وسائر المواطنين إليها، وإقناعهم بالحياد في أزمات المنطقة. فما دام الرئيس منحازاً لفريق، فعليه أن ينتظر انزعاجاً من الفرقاء الآخرين، وما دامت عمليات الفساد مستمرةً في عهده، مع الإصرار على نسبة كل شيءٍ للسابقين، فلا أمل في الإصلاح، وخصوصاً أن وزير الخارجية، وهو صهره، سعى ويسعى لفصل المسيحيين عن المسلمين في الانتخابات وخارجها!
إنّ سلطة الحكم الصالح غير الموجودة في لبنان، هي غير موجودة بمقادير أفظع وأشد هَولاً في سوريا، فلا إقدار اقتصادي، ولا إقدار اجتماعي، وإلى ذلك قهر سياسي، وكلها ظواهر أفضت إلى الانفجار الحاصل، الذي ما تعلم منه رأس النظام شيئاً بعد ست سنوات، حيث قال: إنّ النسيج الاجتماعي السوري صار أكثر انسجاماً بعد سنواتٍ من الحرب (وهو يقصد بسبب هجرة أو تهجير الملايين من الشعب السوري!). ثم إنّ الرئيس بوتين دعا لعقد مؤتمر «للشعوب السورية»! وسوريا شعب واحد في الجغرافيا واللغة والثقافة، و80 في المائة منهم وأكثر عرب. وإذا كان المقصود المسألة الإثنية، فليس هناك غير الأكراد، وهؤلاء يمكن في ظروف السلم التفاوُض معهم على حكمٍ ذاتي. أما أن يصبح السوريون شعوباً على طريقة لينين عام 1922 بالنسبة لروسيا، فهذه كارثةٌ علتُها الأولى استعباد الشعب السوري بالفقر والجوع والقهر، بحيث صار ممكناً التلاعُب ليس بهويته وانتمائه فقط، بل وبوجوده أيضاً!
وما هو حاصلٌ في سوريا منذ آماد، حصل مثله بالعراق منذ آمادٍ أيضاً. وقد كان صدام حسين يورّط البلاد في حروبٍ مهلكة، وتعتبره شريحةٌ كبرى من الشيعة معادياً لها. وبعد الغزو الأميركي، قامت سلطة شيعية/ كردية، بدأت تضرب أهل السنة بحجة ضرب أتباع صدام، والمتطرفين. وقد وصل الأمر إلى حدود التمرد على الغُزاة وعلى السيطرة المذهبية مرتين، عام 2006 – 2007، وعام 2013 – 2014. وفي الحالتين جرت مذابح ضد المتمردين من جانب القوات الأميركية، والقوات العراقية، والميليشيات الطائفية. وتميزت الحرب الأخيرة بأمرين: أنّ الأميركيين هم الذين أخرجوا «داعش» أو حطموه، وأنّ الميليشيات الطائفية بالعراق صارت جزءاً من الجيش العراقي (!). وقد كان همها قتل السكان وتهجيرهم بعد أن تكون القوات الأميركية قد أخرجت «داعشاً» من مناطق سيطرته!
وما حصل في سوريا والعراق، حصل مثله بعد الانقلاب باليمن. فالمتأيرنون همُّهم السيطرة المذهبية، وتجنيد الأطفال، وعدم رعاية التعليم لأنه مُكْلِف، وتجويع الناس ليصيروا أكثر خضوعاً.
إنّ سلطاتٍ كهذه في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وهي سلطات انقلابٍ وإرغام، لا يمكن أن تبني أنظمة للحكم الصالح قائمة على الإقدار الاقتصادي، والاقتدار السياسي، والمشاركة. وهذه السلطات جميعاً تسيطر عليها أفكار تحالفات الأقليات، والاستنصار بالخارج على الشعوب، وقهر الناس بالداخل بالميليشيات الطائفية.
ليس المقصود هنا التشنيع على أحد، أو نشر اليأس. لكنّ الواقع مُزْرٍ جداً. وقد قلت في الفصل الأخير من كتابي «أزمنة التغيير» (2014)، إنّ حالتنا انتقلت من الخوف من الدولة إلى الخوف عليها. لكنّ الخوف على الدولة لا ينبغي أن يدفع للتسليم بأي سلطة لا تنتج تغييراً وسلماً وإقداراً، أو نعود بعد سنواتٍ قليلة لأفظع مما كنا عليه.
فلنضع نصب أعيننا هذه «السلسلة الذهبية»، إذا صحَّ التعبير: المطلوب استنقاذ الدولة الوطنية العربية بالحكم الصالح والرشيد. والحكم الصالح ركناه الإقدار الاقتصادي والإقدار السياسي. والإقدار في الأمرين يدفع باتجاه الاعتدال والانفتاح في الدين وإنهاء التطرف. والأمر الرابع: أنّ هذا الإقدار أو التمكين، هو السبيل الأقصر لتصحيح العلاقة بالعالم.
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية