يُبيّن المسح لواقع العلاقات بين مكوّنات التسوية «الرخوة» ان تصدّعاً شاملاً أصابها كالآتي:
– إشتباك سياسي عنيف بين «تيار المستقبل» و»التيار الوطني الحر» المتهمين اساساً، من قِبل خصومهما وأحياناً حلفائهما، بإبرام صفقات وتفاهمات مشتركة خلف ستارة التسوية الرئاسية، التي اوصلت العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وسعد الحريري الى رئاسة الحكومة. فإذا بهما يتبادلان فجأة اللكمات فوق الزنار وتحته. وأخطر ما في هذا الاشتباك، انّ احدى ساحاته تشمل هذه المرّة مؤسستين حيويتين لا تتحمّلان ان تكونا مساحة لتبادل الرسائل وتصفية الحسابات، هما القضاء والأمن.
– إنتقادات حادّة من الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله الى الرئيس سعد الحريري، بسبب الموقف الذي اتخذه باسم الحكومة اللبنانية في قمّة مكّة المكرّمة دعماً للسعودية وحلفائها في نزاعهم مع إيران، خلافاً لقاعدة النأي بالنفس، تبعاً لمقاربة «السيد». علماً انّ التعايش بين «الحزب» والحريري على قاعدة ربط النزاع في مجلس الوزراء وخارجه كان ناجحاً الى حد كبير، حتى الأمس القريب، على رغم من الإنقسام الحاد حول الخيارات الاستراتيجية.
– إعتراضات علنية تارة، وضمنية طوراً، من رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط على سياسات العهد وأداء الوزير جبران باسيل، وكذلك على نهج الحريري بعد إبرامه التفاهم مع باسيل في باريس. وتعتبر اوساط جنبلاط «انّ باسيل يحاول ان يعيد عقارب الساعة الى الوراء وتحديداً الى ما قبل اتفاق الطائف»، لافتة الى انّ «رئيس «التيار» ينتمي الى مدرسة تعارض أصلاً «الطائف»، فيما الحريري وفريقه يميلان، إمّا الى الصمت وإما الى استخدام خطاب غير موفق».
– خلاف بين جنبلاط و»حزب الله» انطلقت شرارته من معمل الاسمنت في عين دارة ثم اتسع نطاقه، وإن يكن حضور أمين السرّ العام في «الاشتراكي» ظافر ناصر مهرجان يوم القدس في الضاحية قد كسر الجليد، انما من دون ان يذيبه.
– حملات متبادلة بين «التيار الحر» و»القوات اللبنانية» على أنقاض المصالحة التي أصيبت بمرض «ترقق العظم» في سن مبكرة وأصبحت اضعف من ان تتحمّل الأوزان الثقيلة لأزمة الثقة والملفات الخلافية المتراكمة.
في اختصار، «ما حدا طايق حدا». هكذا يبدو وضع أفرقاء التسوية الشهيرة التي يبدو انّها استهلكت كثيراً من طاقتها ووقودها، بفعل الحمولة الزائدة التي أُلقيت على كاهلها، بحيث باتت تحتاج الى صيانة فورية وإعادة تأهيل، قبل ان تتهاوى كلياً تحت وطأة الضربات المتفرقة.
والمفارقة، انّ جدران التسوية آخذة في التفسّخ و»النش» في لحظة اقليمية ومحلية شديدة الدقة، تتطلب أعلى مقدار ممكن من التماسك، إمّا لاحتواء العواصف الاقليمية التي لا ترحم أصحاب البنية الضعيفة، وإمّا لمواجهة تحدّيات الأزمة الاقتصادية التي وضعت لبنان على المحك، وفي كلتي الحالتين لا مكان لترف الخوض في النكايات الداخلية.
والغريب، انّه في هذا التوقيت بالذات، وعلى ابواب مستقبل مجهول.. نُبشت قبور حرب الجبل والسنّية السياسية والمارونية السياسية وغيرها من موروثات ما قبل اتفاق الطائف، وخرجت منها اشباح الماضي لتعزّز الهواجس المُتبادلة وتعيد تزخيم الاصطفافات السياسية والطائفية والمذهبية.
ولعلّ أحد أكثر الأمثلة فجاجة على هذا الواقع، هو النزاع المحموم الدائر منذ فترة بين المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، والذي يمتد من آبار المياه ورِخص البناء الى عمل المحكمة العسكرية وفرع المعلومات، في ترجمة للتجاذب حول الأدوار والصلاحيات.
واسوأ ما في هذه المعركة انّها اتخذت مرة واحدة الطابع الطائفي ( إسلامي- مسيحي) والمذهبي (ماروني- سنّي) والسياسي ( «المستقبل»- «التيار الحر») والرسمي ( القضاء- الامن)، بحيث اجتمعت فيها كل التعقيدات التي تعكس هشاشة التسوية السياسية، بل التركيبة اللبنانية برمتها. وقد اكتمل «المشهد الدرامي» مع طلب القاضي هاني الحجار الى مجلس القضاء الاعلى نقله من المحكمة العسكرية، احتجاجاً على الحكم الصادر في قضية سوزان الحاج.
ويُنقل عن قطب سياسي بارز قوله: «لم يمرّ طيلة حياتي السياسية فلتان كذاك الذي يضرب في الوقت الحاضر بعض الأجهزة القضائية والأمنية والعلاقة في ما بينها، وحتى في عزّ نفوذ المكتب الثاني الذي استولى على النظام السياسي واستشرس ضد الحرّيات لم يكن الوضع سيئاً الى الحدّ الذي وصلنا اليه حالياً».
لكن.. وعلى رغم من كل التصدّعات المستجدة في الستاتيكو، هناك من يؤكّد انّ التسوية باقية وصامدة، على كل علاّتها ومكامن ضعفها، وانها يمكن ان تترنح، إلّا انّها لن تسقط حتى إشعار آخر، لانّه لا بديل عنها، وبالتالي فانّ رفع السقوف قد يفيد البعض في سعيه الى تحسين او تعديل شروطها، من دون ان يخرج منها.