أبرز المعطيات والتي باتت معروفة كما بيّن تقرير التدقيق الجنائي أن مصرف لبنان سجّل فائضاً في العملة الأجنبية بلغ 7.2 مليارات دولار في العام 2015 تحول إلى عجز بقيمة 50.7 مليار دولار في نهاية العام 2020 وفقاً لسعر الصرف الرسمي 1507.5 ليرات، ما يعادل نسبة 230% من إجمالي الناتج المحلي. فيما كلفة الهندسات المالية سجّلت 115 تريليون ليرة أي ما يعادل نحو 76 مليار دولار.
وأضاف التقرير أن هذا التدهور «لم يتم الإبلاغ عنه في الميزانية العمومية لمصرف لبنان المعروضة في بياناته المالية السنوية، والتي تم إعدادها باستخدام سياسات محاسبية غير تقليدية». كما انتقد الافتقار إلى الحوكمة الجيدة وترتيبات إدارة المخاطر في البنك المركزي، فضلاً عن دور سلامة «كشخصية رئيسية في صنع القرار»، وقال: «مارس سلطة غير خاضعة للرقابة إلى حد كبير».
ماذا أظهر التقرير؟
اعتبر نائب رئيس مجلس الوزراء السابق النائب غسان حاصباني خلال حديثه الى «نداء الوطن» أن «نظرة اولية على التقرير تبيّن ما يلي:
– مصرف لبنان لم يعتمد الحوكمة.
– كان المصرف المركزي يتخذ قرارات تعطي الحاكم سلطة استنسابية واسعة في الهندسات المالية من دون معطيات ودراسات او حتى تدقيق في عمله.
– الهندسات المالية مع المصارف المعتمدة كانت من دون معايير شفافة موحدة او واضحة لاحتساب الفوائد وتوزيع التمويل.
– تمّ إخفاء الخسائر المترتبة جراء الهندسات المالية باتباع ممارسات محاسبية خارجة عن المألوف بالمعايير المقبولة للمصارف المركزية.
– غموض وتقارير مالية غير شفافة أخفت العجز المالي لمصرف لبنان واظهرت ارباحاً مما ساعد في عدم تحمل الدولة مسؤولية تجاه انقاذ المصرف مالياً والاستمرار بتحقيق 40 مليون دولار سنوياً من مصرف لبنان والسحب منه تحت ذريعة الاستدانة».
واشار حاصباني الى أن «هذه الأمور حصلت بشكل أساسي، لتغطية مصاريف الدولة التي كانت تُسحب من مصرف لبنان للكهرباء أساساً ولمصاريف تشغيلية اخرى تهدر بادارة سيئة جراء الفساد المستشري».
– كما بيّن التقرير الجنائي ان هناك سلطة مركّزة وعالية وغير مدققة اعطيت للحاكم خلافاً لما هو معمول ضمن المعايير الدولية.
– المجلس المركزي غير فعال كسلطة حوكمة للمصرف المركزي وهو لا يراقب الحاكم كما يجب.
– عدم وجود معايير حوكمة رشيدة في مصرف لبنان
– لا وجود لرقابة فاعلة من قبل مفوض الحكومة الذي لم يرفع التقارير المطلوبة منه لوزارة المال إضافة الى امور مثل دفع عمولة غير قانونية، إجراء تحاويل من حسابات الحاكم الى حسابات في اوروبا تتطلب تدقيقاً اضافياً في مصادرها والمستفيدين النهائيين منها. إجراء مدفوعات غير متناسبة مع الوضع المالي للمصرف المركزي اعطيت لجهات متعددة في لبنان ضمن المصاريف التشغيلية منها تبرعات ومصاريف إعلامية».
الجهات التي تتحمّل المسؤولية
هذا الواقع الوارد في التقرير يستدعي كما رأى حاصباني:
– إعادة نظر بالنصوص التي تعنى بحوكمة مصرف لبنان.
– تشديد الرقابة من السلطة التنفيذية (وزارة المال) والسلطة التشريعية على مصرف لبنان.
– تحميل المسؤولية القانونية لأعضاء المجلس المركزي، ولجنة الأسواق المفتوحة، وحاكم مصرف لبنان ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان ووزير المال اقله خلال الفترة التي غطاها التقرير وقدم ادلة على الممارسات الخاطئة (2025-2020)
– النظر في مقاضاة شركات التدقيق المالي التي دققت في حسابات مصرف لبنان ووافقت عليها واستندت الى قرارات داخلية للمصرف لا ترقى الى المستويات المطلوبة من المهنية والشفافية والحوكمة الرشيدة، حتى في الحالات الخاصة التي تطبق على المصارف المركزية.
تساؤلات لمرحلة ما بعد التقرير
إنطلاقاً من هذا الواقع سأل حاصباني: هل ستتقدم المصارف بدعوى ضد مصرف لبنان لتعويض الأموال التي أهدرت؟ وكيف ذلك وهي مستفيدة بغالبيتها من الهندسات المالية التي حصلت؟ ثم، كيف تتوزع المسؤولية عن هذه الممارسات الخاطئة؟ المجلس المركزي، حاكم المصرف المركزي، ام وزير المال ومفوض الحكومة؟
– إنطلاقاً من هنا من الممكن اطلاق مسار محاسبة كبير في هذا المجال، من ضمنه الذهاب الى القضاء اللبناني كما المحاسبة النيابية.
– الموضوع لا يقتصر على قضايا فساد واختلاس شخصية لبعض الموظفين بل لطريقة عمل وتقصير وظيفي للقيمين على الحوكمة والرقابة ضمن الآليات القانونية الحالية حتى قبل اعادة النظر بالنصوص القانونية.
– هذا التقرير هو نقطة بداية يجب ان تنسحب على التدقيق في حوكمة القطاع العام والجهات التي صرفت الأموال المسحوبة بالسلف من مصرف لبنان، وهدرتها، ومقابل ذلك غطت سلسلة التجاوزات الادارية التي اخفت الخسائر في مصرف لبنان للاستمرار بعملية تمويل الدولة».
يمكن للمصارف الإدعاء على مصرف لبنان
ولكن في المقابل كما أوضح المحامي كريم ضاهر لـ»نداء الوطن» أنه بات من الواضح أن هناك محاولة من العام 2015 لطمس حقائق وعدم إظهار واقع الحال والخسائر الكبيرة التي ترتبت على مصرف لبنان. تقرير «اوليفر وايمن» يتابع ضاهر «يبرّر تلك العمليات غير التقليدية ويقول ان سببها عدم الدفع نحو الإنهيار الإقتصادي، فسخر اعتماد الصرف الثابت من أواخر التسعينات لدعم السياسة الإقتصادية في البلاد… ولكن يعترف أنها أثّرت على الإقتصاد الفعلي وحفّزت الإقتصاد الريعي وخلقت ضعفاً في الإقتصاد اللبناني الذي أوصلنا الى ما نحن عليه».
وبالعودة الى تقرير «ألفاريز أند مارسال» إن «مصرف لبنان وفقاً للمادة 13 من قانون النقد والتسليف، يتمتع بالإستقلال المالي والإداري. وعندما يتعاطى مع الغير تكون لديه صفة التاجر، وبذلك تكون المصارف التجارية هي المتعاقدة معه وليس المودع. وفي حال أقدم على إخفاء وقائع وحقيقة معينة، تكون هناك نيّة فعليّة لطمس الواقع أو الحقائق وغبن تجاه المصارف التجارية. عندها يمكن للمصارف ليس الإدعاء على مصرف لبنان فقط بل على مفوضي المراقبة أيضاً الذين لم يقوموا بعملهم على غرار ما حصل في الولايات المتحدة الأميركية والتي أدت الى إنهاء عمل المراقب بيتر أندرسون في بداية الألفية الثالثة».
مبدأ النسبية في القانون
وفي ما اذا كانت المصارف، وبالتالي المودعون سيصلون في نهاية المطاف الى نتيجة أم لا، فهذا أمر آخر كما يرى ضاهر. فاستناداً الى مبدأ النسبية في القانون Effet relatif des contrats إن علاقة المودعين هي مع المصارف وليست مع المصرف المركزي، باعتبار أنهم أودعوا أموالهم بالأمانة لدى المصارف التي وظفت تلك الأموال لدى مصرف لبنان، علماً أن قسماً صغيراً منها إحتياطي الزامي وقسم أكبر إستثماري استفادت منه البنوك.
من هنا فإن الإرتكاز حسب ضاهر «على التقرير الجنائي لتحصيل المودعين أموالهم بعد ادعائهم على المصارف، قد يمكّن الأخيرة من تحصيل حقوقها من الدولة اذا استطاعت ذلك. وهنا تترتّب عملية إظهار المسؤوليات والخفايا والتجاوزات التي لديها شقّ جرمي وهذه مهمة التدقيق الجنائي».
أما الجنح فهي ناجمة عن تصرفات وزارة «المالية» يقول ضاهر، وهذا التقرير أوّلي وسيتبعه تقرير أكثر عمقاً لتفنيد التفاصيل ومعرفة من المستفيد ومن يقف وراء كل تلك الأفعال. طبعاً هناك مسؤولية كبيرة على حاكم مصرف لبنان ومن يدور في فلكه من نواب حاكم الى أعضاء في المجلس المركزي وموظفين ومدراء كبار».
مرحلة لا تحمد عقباها
من هنا يضيف ضاهر «اذا دخلنا في التدقيق الفعلي وتحديد المسؤوليات نصل الى مرحلة لا تحمد عقباها لهؤلاء الأشخاص. عندها، أي شخص متضرّر يمكنه المطالبة بالتعويض من اشخاص متسببين، وهنا يمكنهم ان يلاحقوا مسلكياً وجنائياً ويمكن ملاحقتهم مدنياً من قبل كل شخص متضرر، ومن كل مودع يعتبر أن تصرفات هؤلاء الأشخاص أوصلت الى الخسارة التي تحملها. إلا أن «المحاكم قد لا تفصل نهائياً لمصلحة هؤلاء الأشخاص، ولكن هناك بيّنة وإمكانية للحكم، لأن هناك رابطاً ما بين الضرر والمسؤولية، عندها يستطيعون تحصيل حقوقهم اذا كان هناك ذمة مالية كافية. ويستطيعون في شتى الحالات ملاحقة موظفين في المصرف المركزي حقّقوا إفادة شخصية من خلال عملهم تدخل ضمن بند الإثراء غير المشروع. وفي تلك الوسيلة يمكن التعويض على المتضررين من الأموال التي تودع في الصندوق الذي أنشئ في القانون 214/2021 الخاص لاسترداد الاموال المتأتية من أعمال الفساد واستعمالها للتعويض على المودعين.
هناك اختلاس… فهل سنشهد مساءلة ومحاسبة؟
رأى خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي في حديث الى «نداء الوطن» من خلال قراءته لبنود التقرير الجنائي، أنه تضمن أخطاء ارتكبتها السلطة النقدية بتغطية من السلطة السياسية الحاكمة، وحجم الأخطاء يستند الى ما توفر من معلومات، وكان هناك إعتراف من قبل الشركة بأن القيود على جمع البيانات كانت كبيرة وشبه تعجيزية».
موضحاً أنه «عندما يكون هناك اختلاس، يبقى السؤال الأهم: هل سنشهد مساءلة ومحاكمة للمتهمين، أو ستحصل تغطية وتعتيم «وعفو عام» كما حصل بعد الحرب الأهلية؟
التقرير أضاء على كيفية اختفاء أموال المودعين، ولكن لا ضمانة لاستردادها إن لم يكن هناك مساءلة ومحاسبة من قبل المتضررين (مودعين والشعب اللبناني)، ومحاكمة وحجز ومصادرة أملاك المرتكبين من قبل القضاء المختص».
وتوجّه فحيلي إلى المصرفيين في لبنان، خصوصاً مدراء الخزينة ونواب المدير العام عموماً، لمشاركة الشعب اللبناني تجربتهم مع مصرف لبنان خلال حقبة الهندسة المالية للتأكيد على ما خلص إلية تقرير «آلفاريز إند مارسال».
وأكد أنه إذا كان هناك ثقة بنتائج التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، فيجب:
1. محاسبة كل أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان، وأعضاء الهيئة المصرفية العليا الذين خدموا خلال هذه الحقبة الزمنية.
2. محاسبة شركات التدقيق العالمية المعتمدة من قبل مصرف لبنان وتغريمها وتجميد عملها في لبنان لمدة لا تقل عن الخمس سنوات.
3. إعادة هيكلة مصرف لبنان بفصل لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة عن سلطة الحاكم وتفعيل عملهما الرقابي، وإنشاء مديرية تدقيق داخلي داخل مصرف لبنان تتقدم بتقرير سنوي مباشرة إلى القضاء المختص، وحصر مدة التعاقد مع شركات التدقيق الخارجي (External Auditors) بخمس سنوات متتالية كحد أقصى مع الشركة الواحدة.
باتريسيا جلاد – نداء الوطن