أما اليوم، فقد حان الوقتُ لرفع الستارة عمّا حدث ذاك الفجر وعن الحقائق التي أدلى بها المخطِّطون للتفجيرات الإنتحارية بعدما اكتملت الصورةُ وبات نشر المعلومات لا يفشّل أهدافَ الأجهزة الأمنية، لذلك تكشف «الجمهورية» محضرَ التحقيقات، وتوضح الصورة التي كثرت الفرضيّاتُ حولها.
بعدما فجّر 4 إنتحاريين أنفسَهم فجرَ 27 حزيران 2016، أبلغ عميلٌ موجود في الجرود إلى مديرية المخابرات عند الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم نفسه، أنّ 8 إنتحاريين غادروا الجرود لتنفيذ عملياتٍ إنتحارية في منطقة لبنانية، وبما أنّ 4 منهم سبق وفجّروا أنفسَهم، فإن 4 آخرين يتحضّرون للخطوة نفسها.
في هذا الوقت كان الجيشُ قد وضع خطة وبدأ تنفيذَها، عزَل من خلالها القاع عن محيطها وبدأ تحقيقاته مع مجموعة من الأشخاص الذين كانت هناك شكوكٌ حولهم، واستطاع من خلال توقيفه بعض المرتبطين بشكلٍ غير مباشر في التفجيرات، تحديدَ أنّ هؤلاء الأشخاص هم من الجنسية السورية، وهو ما تقاطع مع المعلومة التي كانت مسرَّبة الى المديرية من الجرد عن مجموعة تابعة لـ«فصيل بكر» من مجموعة «داعش» الموجودة في الجرود ومركزها في جرد القاع، مع أسماء بعض الأشخاص المنتمين إليها والذين غادروا لتنفيذ عمليّةٍ في منطقةٍ ما في لبنان.
صورة المسؤول…
قادت هذه المعلومات لتحديد صورة شخصٍ سوري تردَّد إلى القاع أكثرَ من مرة وعمل لفترة في هذه المنطقة، وقد أدّى تقاطعُ هذه المعلومة مع معلومة الجرد الى تحديد إسم هذا الشخص: عبد السلام عزّو، وهو المسؤول عن القضايا اللوجستيّة في هذه المجموعة، وكان ينتقل من الشمال الى القاع ويذهب من هناك الى الجرود، وهو «خبير» في شوارع القاع وأزقتها ومعالمها، ومكث فيها فترةً وعلى علاقة بأشخاص هناك.
بعد ذلك تابع المعنيون التحرّيات والاستقصاءات حتى استدرجوا عزّو وكمنوا له ليقبضوا عليه، وفي التحقيق إعترف بمعلوماتٍ أضاءت على أسئلة لم تكن لدى الأجهزة الأمنية إجاباتٌ عليها: مَن كان المستهدَف وماذا؟ مَن المقصود وأين؟ وغيرها من الأسئلة.
الإعترافات
أفاد عزّو خلال التحقيقات بأنّ هناك مشكلاتٍ بين مجموعات «داعش» في الجرود بسبب الضغط، ونتيجتها قرّروا الرد على هجوم ما أسمَوه «الجيش الصليبي» (الجيش اللبناني)، من خلال عملية «إنتقام من الصليبيين»، فحدّدوا منطقتين لهذه الغاية هما القاع ورأس بعلبك.
وذكر عزّو شخصاً آخر له علاقة بالملف أيضاً، وهو ما تقاطعت عليه المعلومتان كذلك بعد نحو شهر من التفجيرات، وهو أحمد يوسف أمون المسؤول اللوجستي عن هذه العملية، وأنه بعد الاتفاق على تنفيذ التفجيرات، اجتمعا في منزل على طرف القاع تقريباً، تناقشا خلاله بتنفيذ مجموعة عمليات إنتحارية، ولم تكن لدى أمون مشكلة بأن تستهدف التفجيرات مسيحيّين، فيما فضّل عزّو أن تحصل في منطقة معيّنة ليعلن الإمارة منها.
إتفق الإثنان على الذهاب الى الجرد وشرحا لأمير «داعش» هناك الإتفاق بينهما، لكنّ الأخير رفض تنفيذَ عمليات إنتحارية في ذلك الوقت لأسباب مجهولة، حتى إنه بعد يومين اتصل بهما مبشِّراً إياهما بأنه تواصل مع الرقة وكان رأيهما مطابقاً لرأيه.
هذا التضارب في المواقف أدّى الى حصول اشتباك في الجرد بين «فصيل بكر» ومجموعة تابعة لـ«داعش» وهو ما أحدث انشقاقاً هرب على أثره الإنتحاريون الثمانية الذين نفّذوا العمليات في القاع، وطلبوا من أمون تأمينَ الأحزمة الناسفة وانتقلوا بعدها إفرادياً الى القاع، حيث قاموا باستطلاعاتهم من تلةٍ تُشرف على البلدة بناءً على معلومات أعطاهم إياها عزّو الذي أوقِف قبل أمون، وحدّد لهم فيها الشوارع والكنيسة وغيرَها من الأماكن كعلاماتٍ يهتدون بها. ولذلك لم يتبنَّ «داعش» العملية بعد حصولها، إذ إنّ المجموعة التي نفّذتها كانت منشقّةً عنه وأجرتها بمبادرة فردية.
توقيف أمون
أما توقيف أمون في العملية الكبيرة التي حصلت، فجاء بناءً على معلوماتٍ أدلى بها كلٌّ من عزّو وطرف آخر تبيّن لاحقاً أنّ مصطفى الحجيري أفاده بها، ما حُدِّد على أثره مكان وجود أمون في المخيّم، حيث أُصيب قبل أن تُعرَف هويّته وأوقف مع 10 إرهابيين، حيث تعرّف أحد القناصين الى أمون فسُحب وتمّ تنفيذ الخطة التي كانت موضوعة لنقل أيّ عسكري قد يُصاب في العملية، فنُقل في الطوافة العسكرية وبقي حيّاً، أما في المستشفى فلم يسمح وضعُه في البداية بإجراء التحقيقات معه، إلّا أنها تقاطعت لاحقاً مع معلومات عزّو.
في التفاصيل…
وصل الإنتحاريون الى القاع من دون أن تكون هناك أهدافٌ محدَّدة في خطتهم، بل إنهم توجّهوا الى البلدة بطريقة فوضوية، ولذلك حصلت التفجيراتُ عند أوّل صدام وقع بينهم وبين مَن رآهم بدايةً، ففجّروا أنفسَهم على التوالي من دون أن يعلموا لماذا وكيف، إذ لم تكن هناك أهدافٌ محدَّدة بخلاف كل ما قيل في هذا الإطار، بل إنّ همّهم كان تفجير أنفسهم في بلدة صليبية بحسب ما أكده أمون: «ما كان في خطة أو تدرّج بالأدوار، كان بدّن ينفذوا عملية كانوا مصرّين عليها رغم الإنشقاق يلّي صار».
أما إنتحاريّو الليل ونتيجة التضييق الذي حدث بعد تفجيرات الصباح، فقد أعادوا الطريقة نفسَها من خلال تفجير أنفسِهم الواحد تلوَ الآخر من دون وجود هدف محدّد لديهم.
إذاً، إنها التفجيرات الكبرى التي أعادت البلدة الى ليلة السابع والعشرين من حزيران عام 1978 عندما حصلت المجازر التي قُتل فيها 15 شاباً من أهالي البلدة إضافة الى شباب آخرين من بلدات مسيحية أخرى… إنه التاريخ الذي يعيد نفسَه في بلداتٍ كُتب لها أن تضحّي بأزهار شبابها… أما السكوتُ عن التحقيقات، فكان لتورّط آخرين في التفجيرات وارتباطهم بعمليات أخرى، وكان كشف التحقيق ليُفشّل عملياتٍ أخرى كانت ستحصل… فها هي القاع جنّبت بلداتٍ أخرى كأساً مرّة كانت ستشربه، وها هم شهداؤها مرتاحو الضمير في عليائهم لتأديتهم الدورَ المناسب على أكمل وجه.
(الجمهورية)