بادر الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، إلى إبرام الاتفاق الإيراني، على رغم شوائبه، وقدم تنازلات كثيرة في سبيل تفادي نزاع جديد في الشرق الأوسط. ولكن، على رغم أنه أفضل الشرور (الحرب)، الاتفاق هذا هو «مساومة خاسرة» ابتعدت عن شروط المجتمع الدولي الأولية، ومنحت إيران حق التخصيب. وعليه، أُجيز لطهران الاحتفاظ بالبنية العسكرية النووية وتجاهل قرارات الأمم المتحدة. والقيود على برنامجها النووي تُرفع في 2025. ولم تنعقد ثمار الاتفاق النووي الحميدة التي كان الغرب يرجوها. فـ «الانعطاف الجيو- سياسي الذي أمل فيه أوباما لم يحصل»، يقول مندداً جان- سيلفستر مونغرينييه في ورقة صادرة عن معهد توماس مور. وعوض تحول الجمهورية الإسلامية إلى ديموقراطية سوق إسلامية، واندماجها في العولمة، برزت جبهة روسية– شيعية في الشرق الأوسط». ويراهن الرئيس الأميركي على خنق الاقتصاد الإيراني من طريق العقوبات لتقويض النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وحمل طهران على العودة إلى المفاوضات، وربما طرد الملالي من الحكم… فباب المفاوضات لم يغلق كلياً. والإدارة الأميركية ترغب في اتفاق جديد. وواشنطن تميل إلى صفقة كبيرة، ولكنها تتلمس بَعد السبيل إلى ذلك «، تقول دانيال بليتكا، نائبة رئيس معهد أميركن أنتربرايز. ورد طهران على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، معتدل، إلى اليوم. ولكن هل يُقدم الإيرانيون على ما يطلبه الأميركيون؟ وواشنطن تغالي في طلباتها: العودة عن البرنامجين الصاروخي والنووي وطي النفوذ الإقليمي… و «كأن ترامب يرغب في ألا تعود إيران على نحو ما عهدت نفسها!»، تقول بليتكا.
والحق يقال يتفاقم الاضطراب في الشرق الأوسط. ويرى المؤرخ والديبلوماسي الفرنسي السابق، جان– بيار فيليو، أن الانسحاب الأميركي من المنطقة «قوّض مبدأ الديبلوماسية في الشرق الأوسط، وهذه خسرت (الديبلوماسية) صدقيتها بسبب عجزها في القضية الفلسطينية والنزاع السوري». والنتائج التي قد تترتب على القرار الأميركي كثيرة. فإذا قررت طهران الانسحاب بدورها من اتفاق 2015 أو استئناف تخصيب اليورانيوم، اندلعت أزمة انتشار نووي جديدة. ولوحت دولة عربية كبرى أنها لن تتأخر عن خوض المغامرة النووية إذا حازت إيران سلاحاً ذرياً. وتنظر باريس بعين القلق إلى تقاطع الأزمات وتناسلها. فإلى وقت قريب، «كانت كل أزمة على حدة (من الأزمات الأخرى)، واليوم، تتشابك الأزمات وتهدد بانفجار وأزمات كبرى»، ينبه ديبلوماسي فرنسي. فينفخ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي و»الانعطاف الاستراتيجي الإسرائيلي» في نيران الأزمات الناجمة عن غياب حل سياسي في سورية وإطباق إيران اليد عليها، والسياسة التركية المعادية للأكراد، والانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. وإسرائيل إلى وقت قريب نأت بنفسها عن النزاع السوري. ولكن المرابطة الإيرانية العسكرية المباشرة وغير المباشرة (وكلاء طهران)، اضطرتها إلى التدخل المباشر. وهذه التطورات تربط ربطاً غير مسبوق بين الميدان السوري والملف الإيراني. ولذا، تحذر باريس من خطر توليد النزاع السوري نزاعات إقليمية بين الدول.
ولكن هل فات أوان الحؤول دون حرب إيرانية– إسرائيلية في وقت تلوح نذر الحرب بينهما على الحدود السورية – الإسرائيلية؟ ففي التاسع من أيار (مايو)، صبيحة اليوم التالي على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، رد الجيش الإسرائيلي على إطلاق صواريخ، نسبت إلى «فيلق القدس» على الجولان. ومن طريق هذا الرد، سعت إسرائيل إلى رسم حدود المحظور وإرساء الردع. ولم تعد ضربات الجيش الإسرائيلي توجه إلى «حزب الله» وحسب، بل كذلك إلى «فيلق القدس» الإيراني والقوات الإيرانية في سورية. وآذن توسيع مروحة الأهداف بمرحلة جديدة من الحرب. وقرب إيران من الحدود الإسرائيلية يعرض إسرائيل لخطر وجودي. فقوات الحرس الثوري الإيراني، الباسدران، طورت برنامج صواريخ باليستية مداها أكثر من ألفي كلم، ويهدد البرنامج هذا إسرائيل والدول العربية. وحين تدعو الحاجة، يسع إيران تزويد الصواريخ هذه برؤوس نووية متفجرة. فنفوذ طهران يتمدد في المنطقة. و»التدخل الإيراني في سورية هو حلقة من حلقات مشروع هيمنة على الشرق الأوسط والخليج والمتوسط. فطهران تتبجح بالسيطرة على 4 عواصم عربية (بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء)»، يقول جان- سيلفستر مونغرينييه. ويتعاون «حزب الله» اللبناني مع «حماس» في غزة. وفي مثل هذه الظروف، تبدو الحرب الإسرائيلية– الإيرانية واقعة لا محالة.
ويقضي الحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني المبرم في تموز (يوليو) 2015 بسد ثغراته الثلاثية الأركان: مآله ما بعد 2025، والبرنامج الباليستي، والتدخل الإيراني الإقليمي. ويقول ديبلوماسي فرنسي إن باريس تشارك واشنطن دواعي قلقها. ولا تستخف بما ساقه علي أكبر ولايتي، مستشار مرشد الثورة في الشؤون الخارجية، وقوله إن محور المقاومة يمتد من الخليج إلى المتوسط. ولكن على رغم ما يجمعهما من قلق، تحتج فرنسا على ما يقترحه ترامب من حلول لهذه المشكلات. وتأمل فرنسا وألمانيا وبريطانيا في إقناع إيران بالتمسك بالاتفاق، وحمل ترامب على مواقف مجدية أكثر. فمنذ مطلع العام، تتباحث باريس وبرلين ولندن أسبوعياً مع واشنطن حول المسألة الإيرانية. وترمي العواصم الأوروبية إلى ملء فراغ الانسحاب الأميركي ثم حمل البيت الأبيض على سلك طريق المفاوضات. والمبادرة الفرنسية تحاكي ما حصل حين انسحاب واشنطن من اتفاق باريس للمناخ في حزيران (يونيو) 2017. ومنح المسؤولون الإيرانيون الأوروبيين مهلة شهرين لنزع فتيل الأزمة. وبعضهم يراهن على مبادرة ترامب إلى اتفاق جديد أوجه الشبه بينه وبين الاقتراح الفرنسي كبيرة، إذا واجه ميزان قوى لا يرجح كفة بلاده. ولكن هل يقتنع الإيرانيون بمثل هذا الحل؟ الرئيس حسن روحاني منفتح على الحوار- ولكن الحوار ليس صنو القبول.
وتبرز تحالفات جديدة في المنطقة، الحادي عليها هو جبه النووي الإيراني. فخصوم إيران يتحالفون. والضغط يكبر على حلفائها في سورية، أي على روسيا. فطهران وموسكو تدعمان بشار الأسد، وهما أنقذا نظامه المترنح في 2015. وزار بنيامين نتانياهو مرتين موسكو، ودعاها إلى تقييد يد حليفها الإيراني. فوافق الرئيس الروسي على وقف تسليم نظام الأسد منظومة «أس 300». فهذه المنظومة تعوق العمليات الإسرائيلية في سورية. ولكن بوتين لم يلتزم تقييد يد القوات البرية الإيرانية. فهذه جسر موسكو إلى تدخل «خفيف» في سورية من دون الانزلاق إلى المستنقع أو الهاوية.
ولا شك في أن العلاقات بين ضفتي الأطلسي تمتحنها أزمة الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. والأغلب على الظن أن العلاقات بين واشنطن وباريس في الأشهر المقبلة ستتوتر. وبعضهم يأمل في دعم روسي وصيني لمساعي رأب الاتفاق النووي الأوروبية.
وسبق أن دعت بكين وموسكو إلى إنقاذه. ولكن فرص نجاح الدور الصيني والروسي ضعيفة، تقول بليتكا. وليس في مقدور الصين وروسيا منح إيران ما تريد: جواز المرور إلى العالم المتحضر».
* مراسلة، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 17/5/2018، إعداد منال نحاس