أحمد جابر:
لدى الحديث عن مشاريع القوانين الانتخابية، يردد البعض أن المتراشقين بالاقتراحات يسيرون على حافة الهاوية، ويضيف بعض آخر أن اللبنانيين الذين عمدتهم فوضى ونيران الحرب الأهلية، لن يكرروا فعلة السقوط داخل الهاوية التي يسيرون على حافتها، أما القلّة من المراقبين فتتحدث همساً أو جهراً، عن هوّة سحيقة انحدر اللبنانيون إليها، ولا يبدو أنهم قادرون على الخروج منها في مستقبل سياسي وأهلي قريب.
ولا بأس بأن يبقى الكلام على الجادة، أي أن يظل الحديث عن الموضوع مطابقاً لموضوعه، مما يوجب القول إن كل محطة سياسية لبنانية تعيد التذكير بأن «فيروس» الانقسام اللبناني ما زال ينمو وينتشر، وأن الانقسام والافتراق والابتعاد، سياسة وممارسة، هو الاستعصاء المرضي الذي يحفظ وجود الإطار الوطني الجغرافي من التقسيم، ويشكل قنوات التعبير عن استعصاء الوحدة التي تتضمنها كل خطب المنقسمين، سياسياً وأهلياً. الخلاف الطارد هو سلاح المتقاتلين اللبنانيين اليوم في ميدان الهاوية التي يقيمون فيها، والاتفاق المطرود من النفوس ومن النصوص ما زال «شريد المنازل»، في وطن ما زال «بيتاً بمنازل كثيرة».
وكي يبقى الكلام مشدوداً إلى وقته الراهن، ينبغي الانتباه إلى أن فشل التوصل إلى قانون انتخاب جديد، هو فعل ينتمي في الممارسة إلى فشل استمرار الجمع الكياني الاستقلالي حول صيغته الفتية، وفشل أدوات التجميع التي تقادمت بعد عقود قليلة من اعتمادها، وفشل السلطة السياسية وتوازنات الشراكة والهيمنة ضمنها، في إنقاذ نفسها والوطن معها، من شبق الاستئثار بالغنم من دون تعديل، واستسهال السلطة تلك ركوب مركب إدارة الظهر للتغييرات الاجتماعية التي حصلت وباتت واقعاً، فكان أن فرضت التطورات تلك حضورها بقوة الرد على «الفوضى السياسية» السلطوية الرسمية، بفوضى سياسات الشارع التي ما زالت فيصلاً يفرق بين اللبنانيين المختلفين.
مهما قيل اليوم انتخابياً، فإن الصراع الفعلي يدور حول عبارة «لمن الإمرة» السلطوية اليوم؟ ويدور حول التخفيف من غلوّ هذه الإمرة التي تنشد تبعية واستتباعاً إذا ما قُيض لها الفوز بطرحها الانتخابي، أو تطلب لنفسها حق نقض الوجهة السياسية العامة للبلاد، عندما ترى في تلك الوجهة ما يخالف تطلعها إلى فرض ذاتها الجديدة التي صارت إليها وصارت لها بعد العمر الاستقلالي المديد.
يستحضر القول هذا إلى المشهد تلقائياً نسخة الشيعية السياسية الحالية التي ترى بحق أن وزنها السياسي المستند إلى نموّها السكاني، وإلى تعدد موارد هذا النمو الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، يتطلب ترجمة في محفل توازنات السلطة تتيح للشيعية السياسية حصة أكبر من تلك التي كانت لها في سابق الأيام.
في مقابل هذا الحق في النظرة إلى الذات وإلى موقعها وحصصها، تخرج الشيعية السياسية عن جادة الحقيقة عندما تفترض أنها قادرة على ابتكار نموذج هيمنة يكون بمثابة بديل عن النموذج الذي قاد العمر الاستقلالي القصير، وفي السياق هذا تكاد الشيعية السياسية تأخذ من الهيمنة تلك أدواتها القمعية الأهلية فقط، وتطرح جانباً كل العوامل الموضوعية والذاتية التي أعطت للمسيحية السياسية، وطليعتها المارونية، درع الهيمنة، فكانت ظاهرة مقبولة من قبل شركائها الآخرين المسلمين، الذين انتموا إلى الصيغة معترضين، وتابعوا سيرتهم معها متوجسين، وأكثروا من التحالفات والسياسات التي وافقت وضعيتهم الطرفية في الكيان، على رغم انتقالهم المتوالي، أو الظاهر، إلى المركز الكياني، انتقالاً خفراً ومتوجساً وذا محاذير مختلطة.
وكي لا ينقطع كلام الانتخاب الحالي عن خلفياته «الوجودية»، لا يجب استبعاد ملاحظة أن قوى «المركز» اللبناني التي كانت لها الهيمنة سابقاً، تحاول تصحيح الخلل الخطير الذي أصاب الكتلة الأهلية التي هي قاعدة الهيمنة الأصلية، ومما لا يخفى هنا أن الإسلام السياسي مجتمعاً، مارس دور وصاية على أجزاء واسعة من هذه القاعدة، بوسائط متعددة وبعناوين متفرقة تراوح مادتها بين التحالف والتعاون، وبين الإقصاء والتهميش والسيطرة عندما يكون ذلك ضرورياً.
محاولتان لن تصلا إلى نتيجة، في الأوضاع اللبنانية المعروفة. لن ينتج الإسلام السياسي، بقيادة الشيعية السياسية هيمنة تنال الشرعية في المدى اللبناني، ولن تستطيع المسيحية السياسية استعادة «مجدٍ غابر» كانت له ظروفه وموازينه. هذا ما يبدو للرائي، من قرب أو من بعد، لكن أصحاب المحاولات تسيّرهم رؤاهم الخاصة وليس ما يقترح عليهم من رؤى، وما يبدو ممتنعاً لدى البعض، يظهر في متناول اليد لدى أصحاب الطموحات الأهلية.
قد يقول قائل: إنما النصر صبر ساعة! ولعل الرد الأنسب: صبره على أي أمر؟ وحسب أي زمن تقع فيه هذه الساعة؟ ومع الرد يمكن لأي سامع أن يجيب: «من جرَّب المجرب كان عقله مخرباً»! والحقيقة أن الساسة الأهليين ما زالوا يجربون، والمفارقة أن عقولهم المبرمجة طائفياً ومذهبياً، تصدّر التخريب إلى جغرافيا وجودها، الجغرافيا التي ما زالت أكثر من مطرح التقاء، وأقل من وطن.
* كاتب لبناني