كتب مصباح العلي في صحيفة الجمهورية :
لا يمكن النظر الى الاشتباكات المتنقلة والسجالات الحادة في الاونة الاخيرة، التي تدور بين فريق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وتيار رئيس الجمهورية كونها تنحصر بالخلاف على تشكيل حكومة تستمر أسابيع قليلة في نهاية عهد رئاسي، القضية تحمل في طيّاتها أسباباً جوهرية تستدعي التفكير ملياً في وجهة الحكم اللبناني وآلياته الدستورية، فلبنان على مشارف انتهاء صيغته المعهودة، وهو مقبل على تغييرات جوهرية، وهذا ما أصبح مرجّحاً في ظل الدوران في حلقة مفرغة.
هي حقيقة مؤلمة، لكن ينبغى الاعتراف بالواقع إن اراد اصحاب الشأن تجنب الارتطام الكبير، بعدما باتت دعوات الانغلاق الطائفي والمذهبي والمناطقي تجد صداها وتتصدّر الخطابات الشعبوية، بصفتها الحل أو البديل عن فكرة وطن تفكّكت هويته عند الذكرى المئوية الاولى 1920 – 2020 نسبة لذكرى اعلان لبنان الكبير.
الحالة الراهنة، بكل ما فيها من صراعات مستمرة، تكشف حجم التدحرج بالازمات الى هاوية سحيقة والعجز عن وضع تصور إنقاذي. لذلك، يمكن اعتبار مؤشرات بالغة الدقة عن تفكّك في الصيغة التي انبثقت منها أسس الجمهورية والكيان السياسي والاداري، فوظائف لبنان على الصعيد الاقتصادي والمالي، كما الفرادة الثقافية والميزات الحضارية المتعددة، باتت من الماضي.
لا يمكن تشريح الواقع الراهن من دون التوقف عند حالة الصراع الماروني – السني التي برزت مؤخرا، وتحديداً عند لحظة 17 تشرين الاول 2019 حيث إنهار تفاهم عون – الحريري، وفيما بعد عصفت الازمات بعهد الاول وإعتزل الثاني الميدان السياسي، الامر ليس فردياً على الاطلاق ولا يتعلق بفريق سياسي، بل هو شكل من أشكال انهيار شراكة حكم دائمة، ميّزت لبنان منذ الاستقلال. لذلك لا يمكن الاستهانة بتداعياتها، وينبغي التوقف عندها نتيجة جملة مفارقات:
اولاً: ليس من قبيل الصدفة بأن الثنائية المارونية – السنية التي أسست النظام اللبناني في العام 1943، وصنعت النموذج السياسي المعهود باتت الان في حالة من النفور وتبادل الاتهامات، خصوصا في ظل خطورة ضعف التمثيل السني داخل مجلس النواب بعد الفراغ السياسي الذي خلّفه المستقبل، والتحذير من مناخ الاحباط عند المكوّن السني.
ثانيا: حجم التباعد العميق، والخلاف بين عون وميقاتي يتعدى تشكيل الحكومة نحو وجهة استراتيجية، فهناك طرف يستعد للخروج من الحكم ويطلب ضمانات واضحة في صلب الحكومة وتكوينها، بينما طرف آخر لا يجد فائدة من الشراكة معه، مع ملاحظة اساسية بأنّ ميقاتي لا يملك عناصر قوة تجعله قادرا على الحكم وادارة دفة الدولة منفرداً بإسم حكومة في ظل فراغ رئاسي محتوم.
ثالثاً: ثمة تكهنات عن مظاهر من الفوضى مرتقبة خلال المرحلة المقبلة، وإن كانت محدودة بالشكل ولن تتسع رقعتها لتهدد مجمل الاستقرار الامني ولو بحده الادنى، وهذا ما يطرح علامات استفهام عن أحداث ميدانية محدودة تساهم في المحصلة الى إنضاج حل على الحامي، على غرار ما حدث عند إتفاق الدوحة 2008 بعد أحداث 7 أيار في بيروت.
رابعا: التمثيل الماروني كما السنّي يحتاج الى مباركة طائفية ضمنية، فلقاء اقطاب الموارنة في بعبدا مهّد الطريق أمام عونـ كما ترشيح نادي رؤساء الحكومات أفسح في المجال أمام تكليف ميقاتي بعد إعتذار الحريري. لذلك، فغياب الاجماع المسيحي حول خيار عون الرئاسي كما فقدان ميقاتي الغطاء السني ولو بالحد الادنى، هو بالمحصلة جزء من توازنات دقيقة ينبغي توافرها كما وضعها المؤسسون في صيغة 1943، رغم التعديلات الجوهرية عند إقرار إتفاق الطائف، لكن هذا سيؤدي الى طرح مُجمل الصيغة على بساط البحث، بما في ذلك مصير اتفاق الطائف .
خامسا: إبتعاد الطرف الشيعي عن السجال الحاد بين الرئاستين الاولى، علما بأن «حزب الله» بنفوذه الاقليمي يعطي توجهاته الداخلية بُعدا استراتيجيا، فلا يمكن تحقيق إستقرار سياسي بمعزل عن ترسيم الحدود ومعرفة نتائج مفاوضات فيينا حول البرنامج النووي، وتالياً الملاحق السرية من الاتفاق الايراني – الاميركي بما في ذلك مواقع وادوار السعودية ومصر وتركيا والعراق، وجميعها بالمصادفة أنظمة سنية إن جاز التعبير.
امام هذه التعقيدات، حالة الاستعصاء الحالية ستُفسح المجال أمام طروحات تدعو الى تغيير الصيغة والنظام، والخطابات السياسية تمهّد الى هكذا خيارات، مع كثرة الحديث عن لامركزية موسّعة تحمل في طياتها تحويل لبنان الى جزر طائفية منغلقة.
ما يعني أنّ مطلق صيغة حكم جديدة خارج المنطق الثنائي كما اختزل السنة كل المسلمين والموارنة كل المسيحيين، تضع المثالثة كخيار حَتمي خصوصاً مع تقدّم الطائفة الشيعية، وكذلك إعطاء الاقليات كالدروز ضمانات كما جرى مع مسيحيي جبل لبنان إبّان السلطنة العثمانية ايام حكم المتصرفية 1861-1918.