تنبئ الوقائع التي رافقت ولحقت استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري بمرحلة جديدة على الصعيد الإقليمي وليس فقط على الصعيد اللبناني الداخلي.
وإذا كانت هذه المرحلة الجديدة تضع لبنان في عين العاصفة، فإن نص الاستقالة نفسه عكس محاولات الحريري الصادقة على مدى السنة الماضية، لتجنيب البلد الانغماس في التصعيد الذي تشهده المنطقة منذ أشهر، حين قال في بيان استقالته إنه حاول «ترسيخ مبدأ النأي بالنفس (عن صراعات المنطقة) ولقيتُ في سبيل ذلك أذى كثيراً… وللأسف لم يزد هذا إيران وأتباعها إلا توغلاً في شؤوننا الداخلية والتجاوز على سلطة الدولة». ومن ثم إشارته إلى «استهداف الأمن الإقليمي العربي من لبنان وتكوين عداوات ليس لنا طائل من ورائها».
ومهما كان من أمر النقاش اللبناني الداخلي حول الاستقالة، فإن الفريق الحليف لإيران يأخذ الأمور نحو سجال حول الخطوة في الشكل، لإبعاد البحث عن مضمون استقالة رئيس الحكومة والأسباب السياسية بخلفياتها الإقليمية العميقة التي دفعت إليها.
وعلى أهمية النقاش في الشكل لبنانياً، فإن هذا يفترض ألا يكون وسيلة للتصرف كالنعامة التي تضع رأسها في الرمال. وأن ينسب حلفاء إيران في لبنان الاستقالة إلى سبب إقليمي ليس تهمة، بعد أن كانوا أمعنوا في إفشال التسوية التي قدم الحريري التضحيات الكبرى من أجلها بهدف تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية، فلم يراعوا هذه التضحيات بل تعاملوا معها على أنها تنازلات أمام ما يعتبرونه انتصارات لهم في سورية والجرود اللبنانية البقاعية والعراق وغيرها من الميادين، وأخذوا يعاملون شركاءهم اللبنانيين على أنهم يذعنون لهم، في وقت حرص هؤلاء الشركاء على إنقاذ البلد من آتون الحروب القائمة في المنطقة، وتخليص الشعب المتعب من الصراعات التي أنهكته على مدى عقود، من كثرة ربط لبنان بالمسارات الإقليمية. فأي تهمة هذه، أن تصنف الاستقالة في سياق رد قوى إقليمية على استخدام لبنان منصة لمواصلة الحروب عليها، إذا كانت واحدة من خطوات رد الفعل على ما قاله الرئيس الإيراني حسن روحاني عن أن لا قرار يؤخذ في عدد من الدول العربية من دون طهران وغيرها من الأفعال الإيرانية في غير بلد عربي؟
في خضم الصراعات المتشعبة التي تحتضنها المنطقة ومع التصعيد الأميركي ضد تدخلات طهران في دولها، تخطت الأخيرة الخطوط الحمر في عدد من الميادين، اعتقاداً منها أنها بذلك تحمي نفسها من الموقف الأميركي فزادت عداواتها حدة. في سورية ذهبت بعيداً في السيطرة على مناطق دُحر منها «داعش» من أجل الإمساك بمساحات واسعة من بلاد الشام لكي تكون لها الكلمة الفصل في أي مساومات محتملة قد يسعى إليها فلاديمير بوتين حول مصير البلد المدمر والغارق بالدماء والجراح. وإذا كانت مرحلة ما بعد «داعش» في الميدان السوري تفترض أن تتشارك الدول التي ساهمت في التخلص من الوحش الإرهابي في المعادلة التي تتحكم بسورية، فإنها تسعى إلى انتزاع أدوار القوى التي قاتلت «تنظيم الدولة» وطردها من المعادلة، بالاعتماد على يدها الطولى في القرار في دمشق. ومن سورية عملت من أجل خرق الاتفاق الأميركي الروسي على إبعاد ميليشياتها عن المنطقة الجنوبية، نظراً إلى توافق الدولتين الكبريين على ضمان أمن إسرائيل على رغم خلافهما الكبير في المنطقة وأوروبا. وزادت تسليحها النوعي لـ «حزب الله» وطرق الإمداد له، ومصانع الصواريخ. وفي العراق، سعت إلى منع انفتاح حكومة حيدر العبادي على السعودية ودول الخليج واستعادة بغداد لهويتها العربية. وفي اليمن زادت تسليحها النوعي للحوثيين، وكان ردها على البعد الإقليمي لاستقالة الحريري بعد ساعات من إعلانها، قصف الرياض بصاروخ باليستي.
تلقت طهران العديد من الإنذارات من العواصم الأوروبية والأميركية والروسية والعربية حيال تخطيها الخطوط الحمر، لكنها لم تكترث وسعت بدلاً من ذلك إلى كسب المزيد من الأرض العربية التي جعلت روحاني ينتشي بقدرتها على التحكم بقرارات عواصم عربية. والخشية الآن هي من أن تتقاطع مصالح دولية على وضع حد لها بالقوة ومن أن يقود ذلك إلى حروب جديدة.
قال الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله الأحد الماضي في تعليقه على استقالة الحريري: «استطعنا خلال السنوات القليلة الماضية أن نحيّد بلدنا عن الصراعات الموجودة في المنطقة، وما زلنا نصر على هذا».
متى كان «حزب الله» مع حياد لبنان؟ ألم يسخر من مقولة النأي بالنفس سابقاً لاعتقاده أنه شريك في صنع مصير المنطقة؟ ولماذا لم يلتزم الحياد الذي أراده الحريري؟
وليد شقير- الحياة