هذا الغموض البنّاء انفجَر على شكل استقالة فاجأت الجميع، لكن لم تكن خارج سياق الاعتراض الجدّي في شارع الحريري وبيئة تيار «المستقبل». ويكفي تتبُّع خطاب بعضِ المعترضين الوازنين، لتلمّسِ مدى عدمِ ملاءمة هذه التسوية مع الوقائع.
في داخل كتلة «المستقبل» احتفَظ الرئيس فؤاد السنيورة الذي لم ينتخب عون بخطاب أكثر من تذكيري، ولم تكن مصادفةً أن تخرج الكتلة ببيانها الأسبوعي، وكأنّها كتلة معارضة للحكومة والتسوية، وهذه مفارقة لازَمت الحكومة حتى استقالتها، فالسنيورة بقيَ في مكانه، ولم يُهلل لعهد عون، وكذلك فعلَ نواب كثُر كالنائب أحمد فتفت الذي صَمت إرادياً طوال الأشهر الماضية، أمّا غيره من نواب الكتلة وليس عددهم بقليل، فقد كانوا يستظلّون بمواقف الكتلة مستمرّين في الاعتراض على مسار توقّعوا نتائجَه منذ البداية.
أمّا خارج تيار «المستقبل»، فقد كان للأصوات التي فَقدت الأمل في استعادة التوازن، صدى عميق في وعي بيئة «المستقبل»، وفي المدى الذي يبدأ من الرياض ليصلَ إلى بيروت، وليس غريباً في هذا المجال أن يكتب الدكتور رضوان السيّد سلسلة مقالات قرَأ فيها نتائج التسوية، وأن يذهبَ بما لصوتِه من صدى عربي وإسلامي إلى تأسيس لقاء سياسي تحت عنوان «تصحيح الخلل الجسيم» الذي أنتجَته التسوية، وكان خطأ بعض الجهات في «المستقبل» أنّها وضَعت ما يقوم به السيّد أو غيرُه ضمن سياق ضيّق، معتقدةً أنّ كلَّ هذا الاعتراض يَصدر عن رئيس حكومة سابق، لا عن دينامية وعن حسّ أهلي وشعبي متنامٍ.
وعلى هذا يمكن القول إنّ الاستقالة بدأت فعلاً في بيروت وأُعلنت في الرياض، وما ستكشفه المرحلة المقبلة من كلام قيل في الغرف المغلقة، سيؤكّد أنّ الحريري الذي استثمر قدرته على الاحتمال إلى نهايتها، كان يناقش في استقالته جدّياً، ومرّات ومرّات كان يسأل عن التوقيت الأمثل، كما أنّ هاجس تكرار المرحلة الماضية كان ماثلاً لديه، فالسؤال الذي طرَحه دائماً على نفسه وعلى من يثقُ بهم: إذا قدّمتُ استقالتي ماذا يضمن أن لا أُترَك وحيداً في هذه المواجهة؟
وعلى الرغم من أنّ الحريري قد نال من الضمانات ما يكفي لاتّخاذ القرار، إلّا أنّه فضّلَ أن يستمرّ في تسويق خيار الاستمرار من الداخل، والاستفادة من الوجود في السلطة للجمِ أيّ اتّجاه لدى «حزب الله» للاندفاع إلى الفوضى كسلاح ردعٍ ضدّ خصومه.
كان الكَيلُ السعودي قد طفح، وبات على الحريري أن يختار، بين الاستمرار وقطعِ العلاقة مع المملكة أو الاستقالة، ففضّلَ الاستقالة، تاركاً «حزب الله» وعون في مرحلة انعدامِ الخيارات البديلة، إلّا منها تلك التي سيلجأ إليها «حزب الله» في نهاية المطاف، والتي ستقطع الطريقَ على عهد عون، وستُنهي صيغة التوازن الثلاثية («المستقبل» و«التيار الوطني الحر» و«حزب الله») التي أملَ عون في أن تكون مظلّة أمانِ السنوات السِتّ