… أطفأنا المحرّكات. هكذا بدا المَشهد في بيروت أمس وتحديداً في المّقار المعنية بمسار تأليف الحكومة الجديدة والتي كانت في ما يشبه «التقاط الأنفاس» بعد «العصْف» السياسي الذي انطوى معه الأسبوع الماضي وتَرقُّب «مفاعيله» على عملية «عضّ الأصابع» التي تدور ظاهراً على معادلاتٍ رقمية في حين أنها تحمل في جوهرها أبعاداً تتصل بحساباتٍ إقليمية لم يكن لبنان واستحقاقاته السياسية الكبرى يوماً بمنأى عنها.
وعشية دخول عملية تشكيل الحكومة اليوم شهرها الثالث، ساد الانتظار للعودة المرتقبة للرئيس المكلف سعد الحريري الى بيروت من زيارةٍ خاصة الى لندن أعقبتْ محطته الرسمية في اسبانيا، وسط هدوءٍ خيّم على جبهة التأليف وراوحتْ التقديرات حياله بأنه إما «استراحة» ما قبل الانتقال الى مرحلةٍ أشدّ قسوة في عملية «ليّ الأذرع»، أو تعبيد الطريق أمام انفراجاتٍ يُمْليها اقتناع الجميع بأن «لا نزول عن شجرة» شروط السقف الأعلى إلا على «سلّمِ تسوية» معروفة المَخارِج.
ولم يكن ممكناً في بيروت أمس حسْم إذا كان المناخ عن «خطة ب» باتت في جيْب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ويدعمه فيها «حزب الله» وحلفاؤه بهدف جرّ الحريري، أو «رئيس وزراء آخر» إلى حكومةٍ بشروطهم، التي تعني عملياً حكومة بتوازنات ما قبل التسوية السياسية التي أنهتْ الفراغ الرئاسي، هو في سياق «التهويل» وعملية ضغط تصاعُدي على الرئيس المكلّف ومن خلفه كل من حزبي «القوات اللبنانية» و«التقدمي الاشتراكي» المتمسكيْن، الأولى بتمثيل وازنٍ لها والثاني بحصرية التمثيل الدرزي به، أم أنّ هناك فعلاً اتجاهاً لمحاولة قلْب الطاولة لبنانياً بملاقاة تحولات المنطقة واستباقاً لـ «موجة العقوبات» الأميركية الجديدة على إيران في سياق السعي لاحتواء نفوذها في المنطقة والذي يشكّل «حزب الله» رأس حربة فيه.
وفيما كانت دوائر سياسية تَعتبر أن أي مسّ بالمعادلة التي تحكم الواقع اللبناني راهناً، وتحديداً بوجود الحريري على رأس الحكومة بما يمثّله من عنصر توازن اقليمي – دولي وعامل استقرار في الوضع اللبناني، يصطدم بتفاهمات خارجية صلبة، بدا أن «المعركة» في الملف الحكومي لا تقتصر حصراً على الأحجام إذ يتكشّف تباعاً ان تحالف «حزب الله» – «التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس عون) يريد أن يحسم باكراً، ومن خارج المظلّة العربية والدولية، التموْضع الإقليمي للحكومة من خلال طي مرحلة النأي بالنفس والدفْع في اتجاه التطبيع السريع مع النظام السوري ولا سيما من بوابة ملف عودة النازحين.
فبعدما شكّل دخول الحريري، السريع والقوي، على ملفّ إعادة النازحين عبر آليةِ التنسيق مع روسيا من خلال لجنةٍ مشتركة ستتبلور ملامحها ومهماتها مع عودة الرئيس المكلف الى بيروت وقد تعقد أول اجتماعاتها قريباً، ظهرت ملامح «شدّ حبال» على تخوم هذه القضية التي قفزت الى الواجهة كواحدة من نقاط التفاهم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب.
فالرئيس الحريري وبخطوة جعْله الروس «الممرّ» لعودةٍ شبه شاملةٍ للنازحين (نحو 870 ألفاً) بآلية تقنية – أمنية، بدا وكأنّه سحب الملف «من فم» المسار الذي أراد فريق «8 آذار» (حزب الله وحلفاؤه) أن يوصِل إلى معاودة التطبيع السياسي مع نظام الأسد من خارج «العباءة» العربية والدولية، وتالياً هو أَحْبط مساعي تحويل هذه القضية الإنسانية مدخلاً لفتْح القنوات السياسية الرسمية بين بيروت ودمشق وانتزاع إقرار لبناني بشرعية الأسد.
وهذا المعطى يفسّر، حسب أوساط سياسية في بيروت، «الحمْلة» من بعض إعلام فريق «8 آذار» على خطوة الحريري، واعتبارها بمثابة هروب الى الأمام من «حتميّة» معاودة التنسيق مع النظام السوري، مع ربْط أي عودة بضرورة أن تمرّ عبر القنوات الرسمية بين بيروت ودمشق.
وكان لافتاً أمس تَسارُع الخطى الروسية في سياق وضْع عودة النازحين موضع التنفيذ، وهو ما عبّر عنه إعلان وزارة الدفاع الروسية إنه تم فتْح أول ممرّيْن للاجئين السوريين من الأردن ولبنان، وأنه «قريباً سيتم فتح 3 مراكز للاستقبال وتوزيع وإقامة اللاجئين وهم أبو الظهور والصالحية وتدمر. وسيتم تجهيزهم يوم 27 يوليو».
وفي هذا الوقت، كان مسار «العودة بالقطّارة» للنازحين من لبنان بإشراف جهاز الأمن العام، يتواصل، اذ سُجل أمس انتقال نحو 888 لاجئاً من عرسال الى القلمون الغربي عبر معبر الزمراني في محلة وادي حميد جرود عرسال ومعابر شرعية أخرى.
وشكّل العائدون أمس الدفعة الأكبر، إذ سبقتْها مغادرة نحو 800 على دفعتيْن وفق المسار نفسه الذي تواكبه المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين للتأكد من ان العودة هي طوعية.
وقد واكَب الجيش اللبناني «رحلة العودة» التي انطلقت باكراً أمس، إذ رافقت وحداته المنتشرة في عرسال قافلة المغادرين.
(الراي)