كتب أحمد الأيوبي:
لا يمكن لقيادة «حزب الله» أن تغطِّي حقيقة استبعادها عن الإحاطة والمواكبة لمسار الاتفاق الإيراني السعودي الموقع في بكين برعاية صينية، وهذا الاستبعاد ليس أمراً عابراً أو ثانوياً، بل هو ضربةٌ غير مسبوقة صوّبتها طهران إلى أذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بحيث نزلت الأنباء عن التوقيع نزول الصاعقة على رؤوس قيادات مواقع الارتباط الأمنية والسياسية والاستراتيجية، لتبدأ عواصف من الأسئلة المصيرية تضرب الاجتماعات وسط محاولات التماس المعرفة لحقيقة ما جرى وراء سور الصين العظيم.
لم يكن الإرباك مقتصراً على التناقض الظاهر في مواقف الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصر الله الذي كان قبل ساعات يتحدّث عن أنّ من ينتظر التسويات سينتظر طويلاً: «لا نراهن على اي تسويات ولا ننتظر تسويات ونقول للبنانيين لا تنتظروا تسويات»، بل إنّ الإرباك جاء ليشمل كامل المشهد الإقليمي وعلى جميع المستويات.
الواضح أنّ كلّ حسابات حلقات المحور الإيراني في المنطقة قد اضطربت، خاصّة أنّ عناوين الاتفاق بين طهران والرياض لا تحمل الالتباس، وهي تشكِّل امتداداً لسلسلةٍ طويلة من المواقف الدولية والعربية والإقليمية، من بيان نيويورك إلى الورقة الكويتية الخليجية المستندة إلى القرارات الدولية بشأن لبنان، ليركّز الاتفاق «على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية»، وبغضّ النظر عن التفسيرات التي سيتخذها هذا البند، غير أنّه يمثِّل اعترافاً إيرانياً بالمسؤولية عن الأزمات في الدول العربية المأزومة بالتدخل الإيراني، بعكس ما كان نصر الله يدّعيه بأنّ طهران لا تتدخّل في لبنان واليمن، بل تترك لـ»حلفائها» حرّية القرار.
كشفت الحصيلة الدبلوماسيّة للاتفاق الإيراني- السعودي أنّ لعبة طهران المفضّلة عبر أذرعها في المنطقة فقدت صلاحيّتها وأنّ قواعد السلوك باتت حتميّة التغيير ولم يعد بالإمكان الاستمرار فيها كما كانت.
الأكيد في مقدِّمات هذا الاتفاق أنّ «الثورة الإيرانية» وتأثيرها على الداخل والتصدّعات التي أحدثتها في المجتمع الإيراني، بالإضافة إلى تواصل العقوبات الأميركية وصولاً إلى تكثيف العمليات العسكرية ضدّ ميليشيات طهران في سوريا واقتراب القوات الأميركية من إغلاق الحدود بين سوريا والعراق والانسداد في أفق «الاحتلال الإيراني» للشام، والانهيار الشامل الذي يشهده لبنان المحكوم من «حزب الله» كلّها عوامل دفعت بالقيادة الإيرانية إلى التوقيع على اتفاقٍ ينصّ على تقليم أذرعها الخارجية.
إيران تعاني
تعاني إيران الأمرَّين على امتداد تواجدها في المنطقة، وخاصة في سوريا، حيث وصل الانهيار حدود تعطيل الدولة أو ما تبقّى منها، واكتشاف طهران متأخِّرة أنّها سيطرت على الحصّة الأقلّ جدوى في الجغرافيا السورية.
فالولايات المتحدة تنشر قواتها في 28 موقعاً أميركياً منها 24 قاعدة عسكرية، و4 نقاط تواجد، وتتموضع القواعد العسكريّة الأميركية شرق سوريا، في المنطقة الممتدّة شرق نهر الفرات من جنوب شرق سوريا بالقرب من معبر التّنف الحدوديّ، إلى الشّمال الشّرقيّ بالقرب من حقول رميلان النّفطيّة، وتتوزّع في الحسكة ودير الزّور. كما أنّ توزّع القواعد الأميركية جعلها أشبه بالطّوق الذّي يُحيط بمنابع النّفط والغاز السّوريّ المتواجد شرق نهر الفرات، وهو ما يُمثّل غالبية الثّروة الباطنيّة لسوريا.
أمّا تركيا فإنّها تسيطر على أكثر المناطق خصوبة وفيها ثروات طبيعية هامة، فضلاً عن مواقعها الاستراتيجية، حيث يتوزع الوجود العسكري التركي شمال سوريا على نحو 129 نقطة عسكرية وأمنية، تتركز في محافظات إدلب وحماة والحسكة والرقة واللاذقية. وتكتمل حلقة السيطرة الأجنبية مع هيمنة روسيا على الساحل السوري وتأمين مصالح موسكو التي تستفيد بعقود ضخمة من صفقات السلاح فضلاً عن هيمنتها الاستراتيجية على جزء هام من القرار في سوريا.
وصحيحٌ أنّ إيران احتلّت مناطق واسعة في سوريا، تبدأ من دمشق (السيدة زينب) والغوطة وصولاً إلى القصير شرقاً وإلى الحسكة وحلب في العمق السوري، وصحيحٌ أنّها تواصل عمليات التشييع القسرية في مناطق احتلالها، غير أنّ هذا «الاحتلال» تحوّل إلى عبءٍ حقيقيّ عليها، وهي التي تعاني معاناة شديدة في الداخل وتنهار عملتها مقابل الدولار بشكل قياسي، حتّى أنّها اضطرّت للطلب من نظام بشار الأسد أن يدفع نقداً ثمن النفط الذي تزوّده به وتعلن انتهاء زمن «العطايا».
تحوّل وجود «حزب الله» في سوريا وجحافله وآلته العسكرية في لبنان، أيضاً إلى عبءٍ استراتيجي، وعندما تحدّث نصر الله عن «اليد التي توجعه» بسبب الانهيار المالي في لبنان، فإنّه لم يكن يتحدّث فقط عن البيئة الشيعية الواسعة، بل إنّه كان يبحث عن توسيع الأفق لإيجاد موارد مالية تمكّنه من الاستمرار في إدارة هذا الجيش الذي يفقد جدواه عند مشغليه وعند بيئته وعند اللبنانيين، بعدما تحوّل سلاحاً معادياً للعرب، ومحيَّداً تجاه الكيان الإسرائيلي.
قد يكون مبكِّراً الحديث عن ترجمة الاتفاق الإيراني- السعودي، لكنّ الأكيد أنّ التوازنات في المنطقة قد تغيّرت، وهي سبق أن شهدت تغييراً هاماً في الانتخابات الأخيرة عندما سقطت الأغلبية من يدي «حزب الله». والآن تظهر بوادر مرحلة جديدة تسمح بإدارةٍ مختلفة للمواجهة من قبل القوى السيادية والتغييرية الواعية، فهي أمام فرصة لاستعادة المبادرة، لأنّ «حزب الله» سيدخل مرحلة فقدان توازن استراتيجي بعدما فقد هيبته وقدرته على فرض الوقائع بالقوة الميدانية أو بالتهديدات السياسية.
لن يفعل العرب والمجتمع الدولي للبنانيين أكثر من ذلك، وعلى من يعتبرون أنفسهم قادرين على قيادة المواجهة أن يستعدوا لها وفق قواعد جديدة أهمّها عدم الدخول في التسويات الفاشلة ومواصلة الصراع لاستعادة الدولة حتى الانتصار.
المصدر: نداء الوطن