نديم قطيش:
لا هوة أوسع من تلك الفاصلة بين شعارات الرئيس ميشال عون وواقع رئاسته. هو نفسه يعترف بذلك مضطراً. فالرجل الذي استل مفردة العهد من قاموس ما قبل جمهورية «الطائف»، حين كان العهد الرئاسي هو مصدر السياسات والطابع الذي تطبع به أيام الجمهورية، تجده يصارح اللبنانيين ونفسه في لحظات الفشل المدوية، بأن ليس بين يديه الكثير من الصلاحيات ليحكم.
مع ذلك تطرب أذناه لمفردة العهد. يرددها المحيطون به «بنغنشة» تقرب النشوة، كأنه وكأنهم يكتفون من الأشياء بأسمائها فقط. وتضاف صفة «القوي» إلى المفردة السحرية فتولد العبارة الأكثر سحراً: «العهد القوي».
العهد الذي صحح تمثيل المسيحيين بعد الطائف، وهو للإنصاف تمثيل تعرض للكثير من الإجحاف من قبل المنتصرين في الحرب الأهلية، في فصولها الأخيرة ولم يُصر إلى تصحيحه إلا بعد المرحلة السياسية التي افتتحها اغتيال الرئيس رفيق الحريري…
لكن لا أحد يريد أن يتوقف عند حقيقة أن «العهد القوي» استرد لهم حقوقاً تمثيلية في البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، عبر آليات وتحالفات وسياسات، يتبين اليوم أنها أفقدتهم، وأفقدت عموم اللبنانيين، حقوقهم كمواطنين!!
ما هذا القدر؟
ينتقل الجنرال العائد من باريس من أقاصي «قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان» عام 2003، الذي رعاه النائب الأميركي إليوت إنغل، أكثر النواب الديمقراطيين حماساً وصداقة لإسرائيل، إلى حضن ولاية الفقيه عبر تفاهم «مار مخايل» مع «حزب الله» عام 2006… ومن هناك يبدأ رحلة استعادة حقوق المسيحيين، لينتهي المطاف بالمسيحيين والمسلمين، بلا حقوق أساسية كمواطنين وبلا أمل في استعادة مدخراتهم أو القبض على زمام مستقبلهم.
ففي العهد القوي، ضعفت الدولة كما لم تضعف حتى في عز الحرب الأهلية الطاحنة وحروب الآخرين على أرض لبنان. ومن ينظر إلى السنوات الثلاث الماضية، سيعثر فيها على كل علامات الانهيار الرمزية والموضوعية، كأنه أمام عهد مصاب بلعنة ساحر من حكايات الخرافة… من الحرائق التي ازدادت استفحالاً في غياب أي آليات لمواجهتها، سوى مروحيات عاجزة عن التحليق، إلى الفيضانات التي أظهرت خراب البنية التحتية بشكل لم يشاهده اللبنانيون من قبل، وصولاً إلى انهيار العملة الوطنية وقدرة اللبنانيين الشرائية والنزيف الاقتصادي المتسارع والانهيار القطاعي شبه الشامل، والمنذر بأن لا قيامة قريبة للبنان من هوة الفقر الواقع فيها.
من الظلم طبعاً تحميل عون وحده مسؤولية ما وصلنا إليه. لكن التاريخ ظالم في معظم الأحيان واختزالي إلى حد بعيد… بهذا المعنى ما سيظل من عون وتجربته هو هذا الفصل الأخير الانهياري التفتتي، الذي للمفارقة يتقاطع مع مئوية ولادة لبنان الأولى ككيان… ومن سخرية الأقدار أن يكون الجنرال قد وعد بتسليم من بعده وطناً أفضل!
لكن من الإنكار أيضاً، عدم تحميله المسؤولية الواجب تحملها.
فالانهيار الحاصل هو وليد تزاوج بين معادلات سياسية واقتصادية كان الجنرال أساسياً في صياغتها، ووليد استنزاف للوقت كان الجنرال عنوانه الأبرز…
1 – لقد شكل التجسير بين عون و«حزب الله»، ممراً للعبور نحو تبديد علاقات لبنان العربية ثم الدولية. وهو ازداد فداحة في ظل تغطية عون الحاسمة لانخراط «حزب الله» في كل حروب الإقليم ومن موقع العداء الأكيد لنظام المصلحة العربية المشتركة في سوريا والعراق واليمن. مع ذلك وحين حصلت التسوية الرئاسية أعطى العرب فرصة لها واستقبلوا الجنرال الإشكالي، وأعطاها المجتمع الدولي فرصة عبر مؤتمر «سيدر» الاقتصادي، ليتبين لهم أن ضعف الحليف العربي والدولي التقليدي في لبنان، الرئيس سعد الحريري، وضع البلاد كلها في سلة «حزب الله»، وقدم دليلاً إضافياً على مستوى الهدر المادي والمعنوي الذي يشكله الاستثمار السياسي في لبنان وتعقيداته.
3 – يحلو للجنرال وفريقه السياسي أن يكرروا لازمة السنوات الثلاثين الماضية ليحملوا مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع على من تولى الحكم إبانها، متناسين أن الجنرال كان شريكاً رئيسياً في القرار السياسي في خلال 15 سنة منها.
والأهم يقفز الجنرال فوق 7 سنوات و4 أشهر من الفراغ السياسي المتعمد خلال فترة شراكته في سلطة، أي نصف الزمن الذي مضى منذ عودته من المنفى الباريسي عام 2005.
7 سنوات و4 أشهر عُطلت فيها المؤسسات، البرلمانية والرئاسية والحكومية إما من حلفاء عون وبالتحالف معه وإما كرمى لعيون مطالب سياسية تتعلق بعون أو صهره! هل هناك من يحسب الكلفة الاقتصادية لهذه السنوات العجاف؟ هل هناك من يحصي آثارها المباشرة وغير المباشرة على منعة الاقتصاد اللبناني؟ هل يتواضع أحد ويصارح اللبنانيين أن تكلفة دعم الكهرباء، التي تولاها فريق الرئيس 11 سنة، تفوق نصف قيمة الدين اللبناني العام؟
هل يتواضع أحد ويشرح للبنانيين كيف انحدر لبنان على سلم قياس الفساد، في عهد محاربة الفساد، من المرتبة الـ63 من أصل 175 دولة عام 2006 إلى المرتبة الـ143 ولاحقاً 138 على المقياس نفسه عامي 2017 و2018؟ كيف يُفسر تضاعف معدلات الفساد في العهد الأكثر كلاماً عن مكافحة الفساد؟
في عهد الرئيس عون يمضي لبنان من دولة شبه فاشلة إلى دولة فاشلة بالكامل. وهو مصير يتحالف فيه على اللبنانيين سياسيون يشيعون أدوارهم التقليدية التي لعبوها طوال عقود، في حين تمضي الحريرية، شريكتهم، من كونها عنواناً باهراً للنجاح لتصير عنواناً مريعاً للفشل.
إذا كان من خدمة يقدمها الرئيس عون للبنانيين في ختام حياته السياسية هي أن يهديهم لبنان كما هو الآن، وألا ينتظر كثيراً في تسليمه لجيل جديد تحت عناوين وهمية…