وعليه، فإنّ الطبقة السياسية التي عاثت فساداً طوال السنوات والمراحل الماضية، وأرهقت الخزينة خدمةً لمصالحها الخاصة والضيقة، وأوصلت لبنان في العام الفائت الى المرتبة 137 على لائحة الفساد، هي التي تتولّى وضع موازنة تقشفية، بحيث يسدد الناس فواتير الفساد.
ولكن هل يمكن ان تنجح طبقة سياسية فقدت ثقة أبنائها في أخذهم الى تدابير قاسية؟ أضف الى ذلك أنّ اطراف السلطة «المأزومين» ما زالوا يضعون أولوية حساباتهم السياسية على أيّ شيء آخر، وينصبون المكامن السياسية في بنود الموازنة لأهداف ضيقة، فنصل الى نتيجة واحدة، وهي أنّ مَن يزرع الريح لا بد أن يحصد العاصفة والتي اصبحت داخل البيت.
والاسوأ أنّ أخبار المنطقة القريبة من لبنان لا تبشر بالخير، ما يزيد من سواد الصورة في لبنان. ذلك أنّ آخر أخبار واشنطن تتحدث عن نية الرئيس الاميركي الذي يستعد للبدء بحملته الانتخابية، طلب مزيد من الاموال من دول المنطقة. وهو ما يعني أنّ على لبنان أن لا يعد نفسه بفائض أموال من الدول العربية قد يستفيد منها لتحريك انكماشه الاقتصادي.
وفي المنطقة ايضاً «صفقة القرن» التي تزيد من لهيب الرسائل المتبادَلة في غزة. وكذلك في سوريا هنالك تعقيدات الشمال السوري وجحيم إدلب ومستقبل الاكراد في شرق الفرات. وبالتالي لا بد للبنان من أن يحتسب من جديد للمخاطر الامنية القريبة من حدوده والتي قد تعود وتهزّ الاستقرار الامني الذي ينعم به.
عندما ظهر زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي في شريطه المصوّر انشغلت دوائر الاستخبارات العالمية في تحليل الرسالة الحقيقية التي أراد إيصالها.
أحد أبرز هذه الاستنتاجات أنّ البغدادي الذي حدد ظهوره قبل أيام من بدء شهر رمضان، إنما يريد إعادة البريق الى تنظيمه الإرهابي من خلال سلسلة عمليات إرهابية سينفّذها خلال شهر رمضان، وهو ما كان يفعله تقليدياً في السنوات السابقة.
وقبل ايام عدة من ظهوره كانت سريلانكا تغرق في بحر من الدماء إثر عمليات إرهابية متتالية. وكشف التحقيق أنّ أحد منفذي هذه الهجمات كان قد تلقى تدريبه في منطقة الرقة في سوريا حين كان تنظيم «داعش» يسيطر عليها.
والمشكلة اليوم أنّ كثيراً من إرهابيي «داعش» في الرقة انتقلوا في وقت سابق الى إدلب، وهم باشروا الآن انتقالهم الجديد في اتجاهات مختلفة، ولبنان هو أحد هذه الاتجاهات.
والمشكلة أنّ تهريب هذه العناصر يتم من خلال مهرّبين سوريين ووفق مبالغ تراوح ما بين 500 الى 2000 دولار اميركي. وسجّل انتقال نحو 140 الف نازح من إدلب، منذ شهرين وحتى اليوم.
وعند الحدود اللبنانية تمّ ضبط كثير من المسارب التي كان يجري استخدامها، لكنّ المناطق المتداخلة وطبيعة الوديان والجبال تجعل من المستحيل على الجيش اللبناني المؤلف عديدُه من 82 الف جندي وضابط، والذي ينتشر على الحدود وفي الداخل على مساحة كامل الوطن أن يؤمّن تغطية شاملة.
هو نجح خلال الأعوام الفائتة في الحرب الاستباقية على عكس ما حصل في سريلانكا حيث فشلت الاجهزة الامنية في التعامل والتجاوب مع التحذيرات المسبقة.
وعند الحدود اللبنانية – السورية هنالك ثلاث «فجوات»، تختزن كل واحدة منها كثيراً من المسارب لتصل ربما الى 130 مسرباً:
ـ الفجوة الأولى، موجودة عند وادي خالد في عكار، حيث الممرّ المائي الفاصل هو الحدود مع سوريا، ويقوم المهربون بوضع صفائح حديدية تسمح بتجاوز المياه للوصول الى الداخل اللبناني، وفي العادة تقوم وحدات الجيش بإزالة هذه الصفائح وملاحقة المهربين، قبل أن يجري تركيب صفائح أخرى في أماكن أخرى. لكنّ التهريب هنا يتولاه لبنانيون بهدف تهريب البضائع وأمور مشابهة.
ـ الفجوة الثانية، هي في منطقة الصويري في البقاع الغربي عند الحدود اللبنانية الشرقية، إذ يستغلّ المهربون الطبيعة الجبلية للمنطقة حيث الوديان والعوامل الطبيعية المساعدة، وحيث يقوم الجيش بنصب المكامن والاشتباك مع قوافل المتسلّلين والذين هم في غالبيتهم من السوريين الذين يدخلون بنحو غير شرعي.
ـ الفجوة الثالثة، وهي حديثة والأكثر قلقاً فهي في منطقة الهرمل حيث القرى متداخلة. ويسجَّل من خلالها تسلّل عناصر جديدة لا تعرف عنها الأجهزة اللبنانية شيئاً.
الجيش اللبناني كان قد أجرى مسحاً شاملاً للسوريين الموجودين في لبنان، والمشكلة انّ العناصر الجديدة التي تتسلّل الى لبنان «مجهولة» بالنسبة الى الاجهزة الأمنية اللبنانية.
وبعد اعتقال هؤلاء والتحقيق معهم، يتمّ تسليمُهم الى الجهات المختصة التي تبدو في نهاية الأمر مضطرة الى اطلاقهم اذا لم يثبت شيء عليهم، استجابة للاجراءات السياسية المتّبعة وبعد أن تتم تسوية أوضاعهم. المشكلة دائماً هي في السياسة.
واللافت أنّ نحو تسعين في المئة من هؤلاء يتوجهون للإقامة في منطقة عرسال. وليس من المبالغة القول إنّ الواقع السياسي المتناقض في لبنان يساهم في تعميق الأزمة.
فمثلاً ذكرت «الفورين بوليسي» أنّ الحكومة الايطالية مقتنعة بأنها إذا أرادت منع حدوث موجة ثانية من اللاجئين وانهاء معاناة النازحين في أوروبا ومواجهة خطر «داعش»، عليها التعامل مع دمشق والتفاهم معها.
وللواقعية فإنه حتى الآن ليس لدى الاجهزة الامنية اللبنانية أيُّ دليل حسّي على التحضير لعمل إرهابي، لكنّ «الهروب» من إدلب في اتجاه لبنان يستوجب رفع مستوى الحذر.
وعلى رغم من ذلك فإنّ التناحر السياسي في لبنان يتفاقم. والنزاع يزداد حدة ويصل الى القضاء والأجهزة الأمنية بخلفية سياسية ولحسابات ضيّقة وشخصية.
والفوضى تزداد مع التخبّط والضياع اللذين يحوطان بإنجاز الموازنة، ما يُنبئ بطريق طويل وصعب وشاق قبل ولادة «موازنة» لن تكون في المستوى المطلوب. فالسياسة والحسابات الضيقة كفيلة بإفساد المطلوب. ومعه لا بدّ لنا من أن نقلق كثيراً.