تتزايدُ في بيروت مؤشراتُ التقهقرِ بعدما باتت «الدولةُ» بين «فكّيْ كماشة»ِ خطر الانهيار المالي – الاقتصادي الذي استدعى إدخالَ البلاد إلى «غرفة الطوارئ»، والمخاطر الناجمة عن زجّ لبنان في أتون الصراع الكبير في المنطقة واستدراجه إلى ملعب المواجهة المتعاظمة بين إيران والولايات المتحدة.
ورغم أن الأمينَ العام لـ«حزب الله» بدا في خطابه الثلاثاء، كمَن «يؤكد المؤكد» حين تباهى بأنه يقْبض على الإمرة الاستراتيجية، ومعها التكتيكية أيضاً في لبنان، ووضْعه البلاد وخياراتها في محور «قائدي سيدي الخامنئي»، فإن صمتَ السلطة السياسية عن «نعي» السيد حسن نصرالله «النأي بالنفس» يضع لبنان الرسمي أمام اختبارٍ جديدٍ لمدى قدرته على الوفاء بالتزاماته تجاه المجتمع الدولي الذي يضع الواقع اللبناني تحت رقابة لصيقة.
وجاءت «صعْقةُ» نصرالله لتكرّس صورة لبنان الأشبه بعربةٍ يجرّها حصانان في اتجاهين متعاكسيْن: واحدٌ نحو الإنقاذ المالي – الاقتصادي عبر الرافعة الأخيرة التي يشكّلها مؤتمر «سيدر» ودفتر شروطه الإصلاحية كما المتّصلة بانتظام البلاد تحت مظلة الشرعية الدولية وقراراتها (1701 و 1559) والنأي بالنفس. والثاني إلى ممرّ الفيَلة في المنطقة التي تشهد تَطاحُناً على عتبة إما حروب كبيرة وإما مقايضاتٍ كبرى.
هذه «السلّة» من المخاطر كانت على الطاولة في جلسةِ «دردشةٍ» مع الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة، شاركتْ فيها «الراي» إلى جانب عددٍ محدودٍ من الصحافيين الذين سمعوا مواقف واستنتجوا مواقف، من الرجل الذي بدا في معظم الأحيان وكأن في «فمه ماء».
في تقدير السنيورة، الذي غادَرَ المواقع الرسمية واستمرّ مسْكوناً بالشأن العام، أن ثمة 3 أخطار من النوع الذي يشكّل تحدياً مصيرياً وهي:
* الواقعُ الاقتصادي – المالي في ضوء التكاتُف بين 3 حقائق مُرّة… عَجْزٌ كبيرٌ في الموازنة، عَجْزٌ في ميزان المدفوعات منذ 8 أعوام، وعجْزٌ في النمو الاقتصادي الذي يراوح بين واحد في المئة ونصف في المئة.
* الخطابُ التحريضي الذي لا يؤدي إلا إلى الاحتقان بين الجماعات اللبنانية، وإلى فقدان الثقة بالمرتكزات الأساسية كالطائف والدستور والقضاء، وتالياً بالدولة، وهو أمرٌ بالِغ الخطورة لأنه يُفاقِمُ الاصطفافات الطائفيةَ والمذهبيةَ ويشكّل مناخاً طارِداً للكفاءات.
* رمي البلاد في أتون الصراعات الإقليمية والدولية، فبعدما جرى الإخلالُ بالتوازن الداخلي، ها هم يلعبون بالتوازنات الخارجية التي يدور في فلكها الواقعُ اللبناني، عبر الزجّ بالبلاد في حروب الآخَرين ووضْعها في مهبّ صراعاتهم وتعريضها لأخطار لا قدرة لنا على تحمُّلها.
ويستعين السنيورة بفذلكة موازنةٍ كان وَضَعَها العام 2002 (في حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري)، ويقرأ مقتطفاً منها ليؤكد أنه كان على إدراكٍ لِما ينتظر لبنان في حال استمرّتْ الأوضاعُ على ما هي، وهو يحرص على القول إن المأزق الاقتصادي – المالي لن يجد طريقَه إلى الحلّ بأدوات مالية – نقدية بل باستعادة الثقة بالإدارة السياسية والثقة بالدولة.
ويأخذ السنيورة، وباستهجانٍ، على القوى السياسية ووسائل الإعلام الانصياعَ لخطابِ «حزب الله» وكأنهم فقدوا البوصلةَ بعدما أصابَهم «الترويضُ»، راسِماً علامات استفهامٍ حيال موقف الدولة وتَخَلّيها عن دورها في اللحظة التي يتم وضْع البلاد في فم هذه الأخطار.
وحذّر من أن «المقاربة الجديدة» التي لوّح بها نصرالله في شأن العقوبات قد تكون مبعثاً لإحداث المزيد من الفتنة في الداخل، مذكّراً بأن ليس في مقدور أحدٍ مواجهة النظام المالي العالمي وقوانينه، مستشهداً بما حلّ يوماً بـ«البنك العربي» الذي تَكَبَّدَ نحو مليار دولار نتيجة تحويلٍ مشبوه قيمته 3 آلاف دولار.
وأكثر ما يُقْلِقُ السنيورة، الذي يدير أكثر من ورشةِ عملٍ بينها «مرصد الطائف»، هو الخطاب المتوتّر لأركان في السلطة، وكأنهم في هذا السلوك يسعون إلى كسْب المزيد من الناس كمتراسٍ لمشروعهم القائم على تَجاوُز اتفاق الطائف وإغراقه بسياساتِ الأمر الواقع والأعراف.
وما دام الحديث عن الطائف، فإن السنيورة يخشى من أن يكون الترويجُ من بعض دوائر السلطة لـ«تَحالُف الأقليات» محاولةً لضرْب العيش المشترك وتفتيت البلاد، منبّهاً إلى أن هذا الأمر هو من أخطر ما قد يصيب المسيحيين وهو يتعارض مع توجهات الفاتيكان.
وبحسب السنيورة فإن ما من خيارٍ لتقويم الاعوجاج الذي يطلّ علينا من هؤلاء سوى باستخدام «المسطرة»، والتي يقصد بها الدستور، الذي في ضوئه يمكن تصحيح الانحرافات الخطرة التي تدار من خلالها الأمور.
الراي