في الاقتصاد ليس الوضع أفضل من الأمن. الضغوط الغربية، ولا سيما الأميركية منها، تخنق البلد. وتحت عنوان معاقبة “حزب الله” ومحاصرته، صار كل لبناني مهدداً بالعقوبات والحصار. يأتي فوق ذلك كله انكشاف الشركات اللبنانية محاسبياً وأمنياً واقتصادياً وإلكترونيا.
آخر الفضائح ما كشفه تحقيق رسمي لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP الذي يعمل مع الحكومة اللبنانية بصفة استشاري، وكذلك مع حكومة كردستان في العراق. فقد تبين للمسؤولين عن البرنامج في أربيل أن وزارة المال هناك تستعمل برامج من المفترض أنها غير موجودة لديها. أظهر التدقيق أن هذه البرامج هي نفسها التي تستعمل في وزارة المالية اللبنانية، والتي كلفت لبنان عشرات ملايين الدولارات. كان السؤال: كيف وصلت هذه البرامج إلى العراق؟
في التحقيقات التي أجرتها UNDP في تموز الماضي، حُصرت الشبهات بموظفَين يعملان لمصلحة البرنامج المذكور في وزارة المال اللبنانية كانا يترددان باستمرار إلى أربيل. والموظفان المتّهمان هما خالد ق. و كلودين ك. يعملان في شركة أسسها وزير المال السابق جهاد أزعور ويديرها حالياً الوزير السابق سامي حداد ومتعاقدة مع إقليم كردستان.
حسمت التحقيقات التي أجراها فريق من البرنامج، قدم خصيصاً إلى بيروت لاستكمال التحقيقات التي أجريت محلياً، مسألة تورط الموظفَين المذكورَين، وأحيل الملف المؤلف من 43 صفحة “فولسكاب” كاملاً إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك. لكن القرار لم يصدر حتى الآن، والقضية لا تزال عالقة في إدارة UNDP، التي لم تنشر التحقيق حتى الآن، خلافاً للأصول التي ترعى عمل البرنامج.
أما الموظفان فقد أوقفا عن العمل نهائياً، لكن على مراحل. فأثناء التحقيق الأولي منعا من مزاولة عملهما، قبل أن تعيدهما وزارة المال إلى العمل، ثم يصدر قرار فصلهما نهائياً من نيويورك.
ضغوط كبيرة، داخلية وخارجية، واجهت المنظمة الدولية ولا تزال، لثنيها عن السير بالأصول القانونية. لهذه الضغوط وظيفتان: الأولى، إبعاد اسم الوزير جهاد أزعور عن الملف، لتعارض عمله في الشركة مع منصبه كمدير للشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، والذي يقع لبنان وكردستان في نطاق عمله، علماً أن مسؤوليته تتخطى طبيعة منصبه. والثانية، صرف النظر عن إحدى أهم نتائج التحقيق، وهي أن عملية البيع لم تقتصر على برامج الضرائب، بل شملت كلمات السر الخاصة بكبار المكلفين، أي المصارف والشركات المالية والعقارية اللبنانية وغيرها من الشركات الكبرى العاملة في لبنان.
هذان أمران ليسا بسيطين في ملف مكتمل ومبني على اعترافات موثقة. فالموظفان أكدا أنهما كانا ينسقان عملهما مع أزعور شخصياً، كما أنهما اعترفا أنهما راجعاه عندما أُبلغا بإخضاعهما للتحقيق. الأهم أنهما اعترفا بقبض شيكات موقعة منه في الفترة التي تلت توليه الوظيفة الدولية، أي في الفترة التي يفترض أنه كان فيها خارج الشركة. لكن للتحقيق رأيا آخر: العقد الموقع بين الشركة وكردستان، وتبلغ قيمته 16 مليون دولار، يشير إلى أن الشركة ما زالت مسجلة باسم أزعور.
التحقيق لا يترك التباساً، لكن مع ذلك ثمة من يريد أن يحمي شخصاً على حساب مصلحة لبنان؟ هل لهذه التغطية علاقة بمشاريع مقررة للمنطقة، عُيّن على أساسها أزعور في صندوق النقد الدولي وعبدالله الدردري في البنك الدولي (ترك منصبه في “الاسكوا” بصفته مسؤولا عن برنامج إعادة إعمار سوريا)؟
أما مسألة كلمات السر المسربة أو المباعة، فثمة جهد جدي لإخفائها مقابل التركيز على فضيحة بيع البرامج فقط. فإن تكون كلمات سر كبار المكلفين اللبنانيين قد وصلت إلى أربيل فهذا يعني تعريض هذه الشركات للانكشاف محاسبياً وأمنياً وتجارياً أمام حكومات أو شركات منافسة أو حتى أجهزة مخابرات عدوة، وهو أمر ليس مستبعداً في ظل توغل الإسرائيليين، وخصوصا “الموساد”، في كل مفاصل كردستان العراق. وعليه، فإن الفضيحة الثانية يمكن أن تؤدي إلى تأليب الرأي العام ضد دور البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، بينما كشفه للفضيحة الاولى فقط يمكن أن يعزز دوره، وهو ربما السبب الذي أدى إلى إخفاء الجانب الأخطر من القضية وحصرا المسألة ببيع البرامج.+
(صحيفة الاتحاد – إيلي الفرزلي)